
لم يكن قرار الرئيس السوداني عمر البشير بتعيين رئيسا للوزراء لأول مرة منذ ما يقرب من 30 عاما، مجرد إجراء في سياق التعامل مع الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد، أو حلقة في مسلسل الصراع على الحكم بين مكونات العملية السياسية في الخرطوم.
فالمتابع لحركة التحالفات الإقليمية المتغيرة بين الحين والآخر، يدرك تماما انعكاسها على دولة السودان باعتبارها أحد اللاعبين الرئيسيين في منظومة المواجهة مع تيارات الإسلام السياسي “المتطرفة”، بسبب طبيعة النظام السوداني، بالإضافة إلى أن الرئيس عمر البشير نفسه هو أحد أبناء الحركة الإسلامية ويواجه اتهامات بإيواء عناصر متطرفة، وتوفير الدعم والملاذ الأمن لهم، من خلال إتاحة الأراضي السودانية لهم يستعملونها كمسرح عمليات وتدريب.
وأقر المكتب القيادي لحزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان تعيين بكري حسن صالح -النائب الأول للرئيس عمر البشير- في منصب رئيس الوزراء، وهو منصب استحدث لأول مرة منذ وصول البشير إلى السلطة عام 1989.
وقال مساعد الرئيس ونائبه في الحزب إبراهيم محمود عقب انتهاء اجتماع المكتب القيادي، إن الأخير وافق على أن يشغل بكري حسن صالح منصب رئيس الوزراء مع الاحتفاظ بمنصبه كنائب أول للرئيس البشير.
ثمة رسائل مهمة أراد البشير توصيلها للخارج من وراء هذا القرار، خصوصا الدول الأكثر فاعلية في منطقة الشرق الأوسط، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، كما أن القرار يمكن قراءته في سياق الاستدارة السودانية ضد إيران ومحاولة تحسين العلاقات مع الخليج وربما مصر، ويعتبر اشتراك السودان في التحالف العربي باليمن أكبر دليل على ذلك.
مراقبون رأوا في قرارات البشير الأخيرة توظيفا لورقة الإسلاميين في مخاطبة الغرب، فالرجل الذي جاء إلى الحكم رافعا شعار الحركة الإسلامية هو نفسه الذي أطاح بعدد كبير من قياداتها، وهو الآن متهم بترجيح كفة العسكريين على حساب الإسلاميين، ويعتبر اختياره للجنرال بكري حسن صالح رئيسا للوزراء ونائبا له أوضح مثال على ذلك، حيث طرحت الحركة الإسلامية أكثر من شخص لهذا المنصب ولكن البشير رفضهم واختار صالح الذي يدين بالولاء له، ويعطى انطباعا أن البشير يعمل على تقليص نفوذ الإسلاميين في السودان.
الباحثة السودانية رشا عوض اعتبرت أن هناك تفاهمات بين البشير وواشنطن والاتحاد الأوروبي في ملفين رئيسيين وهما الإرهاب والهجرة غير الشرعية، ولذلك هو يرى في شخص “صالح” الرجل المناسب أمنيا وعسكريا لتطويق هذا المف والتعامل معه، مشيرة إلى أن مسألة تعيين رئيس وزراء ليست التحرك الأول من البشير في سياق الإصلاحات الدستورية، حيث سبق للبشير أن أجرى تعديلات دستورية تجعل من حقه اختيار حكام للولايات وهو ما جاء منسجما مع فكرة تغليب كفة العسكريين على الإسلاميين، بما يعطى ملمحا مهما في علاقة النظام السوداني بالحركة الإسلامية، ومدى استعداداه للتعامل معهم من منطلق الورقة التي يتم توظيفها لخدمة أهداف سلطوية.
ويبدو أن الرسائل التي أراد البشير توجيها لا تقتصر على واشنطن والاتحاد الأوروبي فقط، وإنما كان للدول العربية نصيبا منها، فالرياض التي فتحت صفحة جديدة مع الخرطوم، كانت ثمرتها الاشتراك في التحالف العربي باليمن، تنظر إلى إجراءات البشير على أنها تأكيد لنفي أية ارتباطات إيديولوجية للنظام السوداني، كما أن أية قرارات من شأنها تحجيم جماعة الإخوان -باعتبارهم الطرف الأهم في الحركة الإسلامية- تثير اهتمام القاهرة وتنظر إليه من منظور الرغبة في إصلاح العلاقات، وهو ما يطرح توقعا باحتمال أن البشير يريد طمأنة النظام المصري في هذا الملف، لاسيما أن السودان ومصر بينهما من الملفات العالقة الكثير، ومنها قضية حلايب وشلاتين، وملف سد النهضة، وملف جماعة الإخوان.
الباحث السوداني حيدر إبراهيم يرى أن البشير لديه قدرة كبيرة على المراوغة والمناورة، ويستطيع توظيف ورقة الإسلاميين في التعامل مع الغرب أو محيطه العربي، مذكرا بسوابق للرئيس السوداني تجعل من فكرة توظيفه لورقة الإسلاميين أمر واضح وليس بعيد، فقد سبق أن تعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية في القبض على أسامة بن لادن، وتسليم الإرهابي كارلوس إلى فرنسا، ولذلك فإن البشير دائما ما يعطي انطباعا للغرب بأنه قادر على التأثير داخل الحركة الإسلامية.
“إبراهيم” اعتبر أن شخصية بكري صالح تؤكد هذا الطرح ، ويمكنه أن يؤدى خدمة كبيرة للبشير ، لأن الرجل ليس محسوبا على الحركة الإسلامية ولم يتورط في أية عداوات إقليمية أو عربية ولذلك فهو يحظى بقبول دولي وإقليمي، ويستطيع أن يتعامل هو مع الغرب في أي قضايا خاصة بملف الإسلاميين والإرهاب دون أن يطال البشير أية انتقادات ويظل هو ضمن التيار الإسلامي، كما أن الرجل يأتي من المنطقة الشمالية التي ترتبط مع مصر بروابط مصاهرة ونسب، وهو ما يعطى انطباعا بتلطيف الأجواء مع القاهرة .
السؤال الأهم هنا ليس في دلالات التغييرات الدستورية ولا في الرسائل التي يريد البشير توجيها للخارج ، ولكن في مدى إمكانية تحقيق هذه الأهداف ، وهل يستطيع البشير خدمة التوجهات الخارجية الجديدة أم سيصطدم بمعوقات؟
ثمة تناقضات يمكن رصدها في كيفية تعامل الغرب مع النظام السوداني، باعتباره أولا جزءًا من الحركة الإسلامية ، وثانيا تعويل واشنطن على الخرطوم في القيام بدور ما في الحرب على الإرهاب وتقليص نفوذ الإسلاميين، فالنظام الإسلامي في السودان له تاريخ طويل من التعاون مع واشنطن ، ولديه ارتباطات استخباراتية مهمة مع الغرب، وبموجب هذه الارتباطات قدم معلومات مهمة لـ”سي أي إيه” ومجموعة ضخمة من ملفات الإرهابيين بالسودان، وهنا تظل المشكلة ، فهل الغرب حريص فعلا على تقليص نفوذ الإسلاميين في السودان؟، أم أنه يريد نظاما إسلاميا مفصلا، ويمكن للبشير لعب هذا الدور؟، كما أن هذا الطرح يعتبر من معوقات تحقيق التوجهات الخارجية الجديدة للبشير.
تقول “عوض” إن رغبة البشير في صناعة توجهات خارجية مبنية على مغازلة الغرب ليس بالأمر السهل، وأن هناك العديد من المعوقات التي سيصطدم بها ، من ضمنها أن الممسكين بزمام الأمور في كل المؤسسات السوادينة سواء المدنية أو العسكرية هم من المحسوبين على التنظيمات الإسلامية، وعملية الإحلال والتبديل لا يمكن أن تتم بناء على قرار فردي، لأن عملية الإقصاء للمدنيين أخذت عشرات السنين، ولذلك فإن نفوذ الإسلاميين قادر على إفشال أية مخططات للبشير، ثانيا: الهشاشة الداخلية للنظام السياسي في السودان وهو ما انعكس على أداء الأجهزة الأمنية، حيث هناك عناصر أمنية وعسكرية تستثمر في مجال الهجرة غير الشرعية بسبب الأزمة الاقتصادي.
على أية حال تبقي طبيعة التوجهات الخارجية للنظام السوداني مرهونة بما يمكن أن تسفر عنه الأيام القادمة من سياسات خاصة بالعلاقة مع دول بحجم واشنطن والاتحاد الأوروبي، ودول عربية بحجم الإمارات ومصر والسعودية، لاسيما أن السودان يمر بظروف اقتصادية صعبة فرض عليه مجموعة من السياسات التقشفية التي نتج عنها احتجاجات طلابية وشعبية هي الأعنف في تاريخ السودان.
سعيد قدري
المصدر: نصف الدنيا بتاريخ 2017/03/08