
مع مرور نحو خمس سنوات على إندلاع ثورات الربيع العربي؛ والتى إنطلقت شرارتها فى عدد من المدن التونسية في 17 ديسمبر 2010، وإنتهت في 14 يناير 2011، برحيل الرئيس “زين العابدين بن علي“، وتبعتها الأحداث المماثلة للثورة المصرية يوم 25 يناير 2011 بإحتجاجات شعبية ذات طابع إجتماعي سياسي هدفها الأول الإعتراض علي سلوك الشرطة ضد فئات المجتمع، وإنتهت بتنحي الرئيس “محمد حسني مبارك” في 11 فبراير 2011، وحتى الآن لازالت دول شمال أفريقيا تمر بمراحل مختلفة من الإنتقال السياسي بتبعاته الأمنية والاقتصادية المتنوعة.
ويكشف تاريخ العلاقات الدولية المعاصرة الكثير من دروس التجارب السابقة في الإنتقال الديمقراطي بشكل عام، وإصلاح القطاع السياسى والأمني بشكل خاص، فقد تميزت هذه التجارب بمستويات مختلفة من الفاعلية والنجاح في الدول التي عايشت الصراعات من الحكم الشمولي عقب سقوط جدار برلين فى نوفمبر1989، وما سبقه وتلاه من ثورات ديمقراطية إجتاحت عدد من البلدان الأوروبية وإنعكس صداها على الواقع العربى لمدة.
وظل الدرس المهم المستخلص من التجربة العالمية المقارنة فى الإنتقال السياسى وإعادة البناء المؤسسى، أن تحقيق السلام السياسى والإستقرار المجتمعى على المدى الطويل يعد ضربا من المستحيل دون إقامة نظام سياسى وأمني منضبط قانوناً وسلوكاً، لذا لاتزال مرحلة الإنتقال الديمقراطي المضطربة في تونس متواصلة؛ وذلك فى ظل إستمرار حالة القلق الأمنى المتصاعد ما بعد تنفيذ عدد من الإغتيالات السياسية وتواتر القيام ببعض الأعمال الإرهابية، وفي مصر مازال النظام الحاكم يواجه إشكاليات التعامل مع تبعات الأزمات المزمنة المتراكمة من الفترات السابقة، بمستوياتها المختلفة اقتصادياً وإجتماعياً وسياسياً وأمنياً، كما يوجه جدلية التحرك الفعلى وفق التوقعات الثورية والشعبية.
ومع تعدد نقاط الإختلاف بين واقع وظروف التجربتين (التونسية والمصرية)، فى الإنتقال السياسى وإعادة البناء المؤسسى ما بعد الربيع العربى؛ فقد شهدت المنطقة العربية خلال السنوات الأخيرة حراكاً شعبيّاً، طالب بالحرية والمساوة لجميع المواطنين دون تمييز، إلا أن تطور الأحداث السياسية دفع بإتجاه صعود التحديات التى تواجه علاقة السلطة السياسية بمختلف المكوّنات الإجتماعية، وفتح النقاش حول مستقبل النضال من أجل دولة المواطنة في المنطقة العربية، بعد أن تصاعدت الهويات الإثنية والعرقية، سواء على مستوى الخطاب، أو على المستوى التنظيمى لحركات إتخذت من الهوية الدينية أو الإثنية مرجعاً لها، وما يحدث الأن بسوريا والعراق ولبنان واليمن ليس ببعيد.
ولم يقتصر الأمر على تسييس الهويات الدينية والعرقية، بل وصل إلى حدّ وقوع مواجهات مسلّحة بين بعض المكوّنات الإجتماعية في البلد الواحد، ليضع ذلك تساؤلاً حول مدى إمكانية وجدوى إعادة بناء دولة المواطنة من عدمه؟ وما السبل المتاحة لتحقيق ذلك؟ فى ظل المناخ السائد في العديد من الدول العربية، والذى تتصاعد فيه يوماً بعد الآخر التحديات الوجودية لمدى إمكانية بقاء الدولة ككيان جغرافى موحد من عدمه، وفى ظل بيئة دولية وإقليمية تتشابك وتتسارع وتحاك فيها المساومات التدميرية ليل نهار للدول العربية.
ومع إعادة القراءة المتأنيه لما تميزت به تجربتى العبور القلق لتونس ومصر، عن غيرهما فى سوريا وليبيا واليمن وتجاوزهما لجل تلك التحديات؛ كالقدرة على الإدارة النسبية للإضطرابات السياسية والإجتماعية ومواجهة التحديات الاقتصادية، ثمة الكثير من القواسم والتحديات المشتركة بينهما سياسياً واقتصادياً وكذلك على المستوى الأمنى، كإستمرار حالة التباعد بين القوى السياسية المختلفة، وتعقد مشكلة البطالة الشبابية المتصاعدة، وإستمرار حالة التنمية الاقتصادية المضطربة، وثبات الفساد الإدارى والمؤسسى، وإفتقاد الرؤية للقيام بعملية إصلاح جدّي.
لذا تسعى هـذه المساهمة لتناول التهديدات والتحديات المرتبطة بعملية إعادة بناء الدولة الوطنية والتحول فى كلاً من تونس ومصر، من النظم البائدة إلى نظم ديمقراطية أكثر قابلية للإستقرار والإستمرار وأكثر تحقيقا للأهداف الثورية، كما ستتناول التهديدات الأمنية التي تـواجـهـهـا بــلــدان الـربـيـع الـعـربـي بـشـكـل عــام، وتـحـلـل ّ الديناميات والسياقات المختلفة التي تمثل مـحـددات لهذه التهديدات وآفاقها المستقبلية وفى القلب من ذلك التركيز على تونس ومصر، وتنطلق المساهمة مـن أن هـنـاك تـحـديـات تـتـجـاوز مـا رتـبه الربيع العربى وما سبق إندلاعه، إلى وجود عـوامـل إسـتـراتـيـجـيـة وبنيوية عربياً وإقليمياً، تـتـصـل إقتصادياً وديمغرافياً، بالطبيعة الجيوستراتيجية للمنطقة فى الواقع الدولى، وتستجيب إلى تجاذباته تأثراً دون تأثير فى نطاق البوتقة الشرق أوسطية.
وبينما تتناول المساهمة واقع وتحديات إعادة البناء فى تونس ومصر، حيث التهديدات في إطارها العام، ستركز بالأساس على تتبع مؤشرات التحول في ميزان القوى ومصالح الفاعلين فى الربيع العربي داخلياً وخارجياً، كـنقطة لفهم وتوقع مسارات مستقبل التحول الجوهري في ميزان تلك القوى فى سياقها الإقليمي والدولى، خاصة فـي ظـل مـا تشهده ليبيا مـن حالة إنـفـلات أمـنـي، وغـيـاب واضـح لمظاهر السلطة الفاعلة، لما له من إنعكاسات تتجاوز الحدود الليبية إلى جارتيها تونس ومصر، وذلك فى محاولة لإعادة قراءة واقع ثورات الربيع العربي في سياقها التاريخي بصورة جادة؛ بغية إستثمارها كفرصة تاريخية يصعب تكرارها، تمهيداً لإعادة توجيهها ما أمكن لتكون العتبة الأولى، التى ستمهد لثورة عربية كبرى وفق نظرية متكاملة؛ تضع العرب في مسار صناعة التاريخ بدلاً من إستمرار إستهلاك الحدث والتماهي في حيثياته.
المحور الاول:
واقع ما قبل ثورات الربيع العربى:
1ـ واقع قطبي الربيع العربى:
تمر المجتمعات البشرية عبر تاريخها، بمراحل وأحداث تتفاوت في تأثيرها على المعطيات الحضارية، فبعض الأحداث تمر عابرة وبعضها يستمر لجيل وربما أجيال، ونوع ثالث يهدم الكيانات القائمة؛ فارضاً ضرورات البحث عن بدائل للأنقاض التي خلفها وراءه تحت الركام.
ولم يكن واقع المجتمع العربي إستثناءً عن تلك القاعدة؛ فقد شهد في بدايات القرن الواحد والعشرين، أحداثاً ما زالت آثارها قائمة وبعضها لم تتبلور مآلاته حتى الأن، لكنها كانت مقدمات لأحداث ما عرف بــ( ثورات الربيع العربي)(1)، والتى جاءت نتاجاً لعدد من التركمات المرحلية المتنوعة لسوالب الآداء الحكومى فى إدارة معظم مجتمعاتها فى الفترات السابقة زماناً لإندلاع تلك الثورات، وفى القلب منها كان الواقعين التونسى والمصرى يموجان بعدد من المشاكل والسياسات المئزومة(2)، شكلت فى مجموعها ما يشبه البركان الثائر بإتجاه السطح تمهيداً للإنفجار.
أـ الواقع التونسى:
فهذه تونس الخضراء، ظلت تعانى تبعات الآداء المتخاذل لدولة ونظام “زين العابدين بن على” والذى ظل متربعاً على رأس سلطتها رئيساً للجمهورية منذ 7 نوفمبر 1987 حتى 14 يناير 2011(3)، وهو الرئيس الثاني لتونس منذ إستقلالها عنفرنسا عام 1956 بعد “الحبيب بورقيبة“، حيث عين رئيساً للوزراء في أكتوبر 1987 ثم تولى الرئاسة بعدها بشهر في إنقلاب غير دموي سُمِّي آنذاك بـ”انقلاب الأطباء”، كونه إعتمد على تقرير طبي يؤكد أن “بورقيبة” لم يعد قادر صحيًّا على مزاولة مهامه، وظل يعاد إنتخابه بأغلبية ساحقة في كل الإنتخابات الرئاسية التي جرت، والتى كان آخرها في 25 أكتوبر 2009.
فـ”زين العابدين” والذى يعد تاريخه إمتداد لفكر المؤسسة الأمنية التى صعد الى رئاسة الوزراء قادماً من دواليبها وزيراً للداخلية ومن قبلها رئيساً لجهاز الأمن الوطنى التونسى، أُعتبر من الرؤساء المنفتحين على الغرب نظراً لما شكلته الثقافة الفرنسية والأوروبية من خلفيات تكوينيه له فى بناء الذات، وعندما تولى مهامه غير من تونس كثيراً وجعلها من أكثر الدول العربية المنفتحة على أوروبا، كما قام وهو وزيراً للداخلية ثم رئيساً للوزراء فرئيساً للجمهورية، بخطوات تجاه بعض التيارات الدينية؛ حيث أعاد الصوفية إلى البلاد، وسمح للكنائس في تونس بممارسة العبادات، بالمقابل في عهده مُنع الحجاب الذي كان يصفه بـ”الزى الطائفي”، وإنعكاساً لصراعه الممتد مع حركة النهضة التونسية، كان يتهمه خصومه السياسيين بشن حرب على الإسلام السياسى ورموزه.
إستمع التونسيون لأول مرة لـ”زين العابدين” عبر موجات الإذاعة وهو يقرأ نص بيانه الشهير فى العام 1987؛ هذا البيان الذي تضمّن مُعظم تطلعات التونسيين ونُخبتهم، وتونس تعاني أزمة اقتصادية خانقة كادت أن تعصف بالبلاد، وبعد أن أشرف النظام السياسي والإجتماعي على الإنهيار، ومنذ ذلك التاريخ؛ دخلت تونس في دورة جديدة دون أن تنقطع عن العهد السابق، حيث فتح “بن علي” لأول مرة الطريق فى وجه الأحزاب والمثقفين من غير المُنتمين للحزب الدستوري الحاكم منذ إستقلال البلاد، ومنح تراخيص عمل لعدة أحزاب غير فاعلة ونشاطها السياسي ضئيل كـ(حزب الخضر والاتحاد الديموقراطيين الاشتراكيين..).
وفي أجواء حرب الخليج الثانية 1991، إندلعت المواجهة بين السلطة وحركة النهضة، فكان ذلك إيذاناً بنهاية سريعة للفُسحة شبه الديموقراطية النادرة لنظام “زين العابدين” وبداية تغيير جوهري لأسلوب تعامل النظام مع المعارضة والمجتمع المدني، وبدا جليا حينها أن “زين العابدين” لم يكن يرغب بتداول السلطة، لكنه في المقابل كان في البداية وقبل أن تستقِر أوضاعه نهائياً، يميل لإشراك أطراف عديدة في اللّعبة، بما في ذلك الإسلاميون، لكن بعد أن بدا له زخم التيار الإسلامي وإتساع قاعدته فضل المواجهه.
فقرر مواصلة حظر “حركة النهضة” وحزب “العمال الشيوعي” التونسي نظراً لشعبيتهما المتزايدة بالأوساط الدينية وخاصة العمالية، وقام بمنع صحيفة الموقع التي كان يديرها الحزب التقدمي والمعارض الأبرز “أحمد نجيب الشابي” من النشر عدة مرات، ثم أقام أول انتخابات قانونيه تعددية سنة 1999، بعدما يقرب على 12 سنه من وصوله للحكم، وصفت حينها بالانتخابات التعددية المخلصة للأحاديه، حيث أُعُتبرت نتائجها محسومة سلفاً لصالحه، وأجرى تعديل دستوري بالفصلين 39 و 40 من الدستور لإزالة الحد الأقصى لتقلد المنصب الرئاسي ما مكنه من إعادة الترشح مرة أخرى لإنتخابات 2009.
ورغم إقرار الحكومة التونسية بضرورة الحوار مع الشباب سنة 2009، ومنحها حق الإنتخاب لمن يبلغ 18 سنه، إلا أن ذلك هَدِف حينها؛ إلى إدخال الجيل الجديد في غيبوبة سياسية متفادياً الثورات الطلابية، كالتي برزت في أواخر العهد “البورقيبي”، لكي يواصل “بن علي” رئاسة البلاد بعدها لسنوات.
اقتصادياً، تحكم فى ثروات البلاد في عهد “بن علي” ثلاث عائلات، هى: “الطرابلسي” و”بن عياد” و”بن يدر”، وجميعها متصاهره، كما إمتلك أصهاره شركات للإتصالات والإنترنت والسياحة ومساحات زراعية شاسعة، وذلك ما مكنه من حكم البلاد اقتصاديا بقبضة من حديد، كما أدارت حاشيته المقربة إمبراطورية اقتصادية داخل تونس وخارجها ذات إرتباط قوى بغيرهم من الأوروبيين والأمريكان.
وقد تبع الإنهيار الاقتصادي إنهيارات أخرى على الصعيد الثقافي والإجتماعي والسياسي حتى باتت السلطة محل إنتقاد من كل التيارات السياسية التونسية بمختلف مشاربها وإنتماءاتها الأيديولوجية، وكان التغيير من خارج السلطة أشبه بالمستحيل بسبب قوة النظام الأمنية من جهة وتشتّت المعارضة من جهة أخرى(4).
ثم ظل الوضع هكذا يزداد سوءً وإحتقان شيئاً فشيئاً، حتى إندلعت الأحداث وتدحرجت كرة الإحتجاج الشعبى فى المدن التونسية، بعد أن قام الشاب “محمد البوعزيزي “يوم الجمعة 17 ديسمبر عام20100، بإحراق نفسه تعبيراً عن غضبه على بطالته ومصادرة عربته التي يبيع عليها الخضروات، بعدما قامت الشرطية “فادية حمدي “بصفعه على الملأ، مما أدى في اليوم التالي لإندلاع شرارة المظاهرات وخروج آلاف التونسيين الرافضين لأوضاع البطالة وغياب العدالة الإجتماعية وإنعدام التوازن الجهوي وتفاقم الفساد داخل نظام “زين العابدين”.
لتتحول هذه المظاهرات إلى ثورة شعبيه شملت عدة مدن في تونس أدت لسقوط عدد من القتلى والجرحى المتظاهرين، نتيجة تصادمهم مع قوات الأمن، لتجبر تلك الهبة الشعبية الغاضبة “زين العابدين”، إعلانه عن عدم الترشح لإنتخابات الرئاسة عام 2014، كما أجبرته على إقالة عدد من الوزراء بينهم وزير الداخلية وتقديم وعود لمعالجة المشاكل التي نادى بها المتظاهرون.
لكن توسعت رقعة الغضب وتزايدت الحشود الشعبية حتى حاصرت مقر عدد من الوزارات، ما أجبر “زين العابدين”، على التنحي عن السلطة والهروب من البلاد خلسةً, حيث توجه أولاً إلى فرنسا التي رفضت إستقباله خشية حدوث مظاهرات للتونسيين فيها, فلجأ إلى السعودية وذلك يوم الجمعة الموافق للـ 14 من يناير2011، ليرحب بقدومه الى أراضي المملكة، الديوان الملكي السعودي، عبر بيان نشرته وكالة الأنباء السعودية كان نصه، “أنه انطلاقاً من تقدير حكومة المملكة العربية السعودية للظروف الاستثنائية التي يمر بها الشعب التونسي الشقيق وتمنياتها بأن يسود الأمن والاستقرار في هذا الوطن العزيز على الأمتين العربية والإسلامية جمعاء وتأييدها لكل إجراء يعود بالخير للشعب التونسي الشقيق، فقد رحبت حكومة المملكة العربية السعودية بقدوم فخامة الرئيس “زين العابدين بن علي” وأسرته إلى المملكة. وأن حكومة المملكة العربية السعودية إذ تعلن وقوفها التام إلى جانب الشعب التونسي الشقيق لتأمل ـ بإذن الله ـ في تكاتف كافة أبنائه لتجاوز هذه المرحلة الصعبة من تاريخه”.
ليعلن الوزير الأول” محمد الغنوشي ” توليه رئاسة الجمهورية بصفة مؤقتة لتعثر أداء الرئيس لمهامه، وذلك إستنادًا للفصل 56 من الدستور التونسي والذي ينص على، أن “لرئيس الدولة أن يفوض الوزير الأول في حال عدم تمكنه من القيام بمهامه”، لكن المجلس الدستوري أعلن إنه “بعد الإطلاع على الوثائق لم يكن هناك تفويض واضح يمكن الإرتكاز عليه فى تفويض الوزير الأول، وأن الرئيس لم يستقل، وبما أن مغادرته حصلت في ظروف معروفه وبعد إعلان الطوارئ وبما أنه لا يستطيع القيام بما تلتزمه مهامه ما يعني الوصول لحالة العجز النهائي فعليه، قرر اللجوء للفصل 57 من الدستور وإعلان شغور منصب الرئيس.
ليتبع ذلك فى اليوم التالى، السبت 15 يناير 2011، الإعلان عن تولي رئيس مجلس النواب “محمد فؤاد المبزع“، منصب رئيس الجمهورية بشكل مؤقت، لحين إجراء إنتخابات رئاسية مبكرة خلال فترة من 45 إلى 60 يومًا حسب ما نص عليه الدستور(5).
ب ـ الواقع المصرى:
لم تأتى الثورة المصرية فى 25 يناير 2011، إنعكاساً خالصا للثورة التونسية التى إندلعت في تونس في 18 ديسمبر عام 2010 (أي قبل 38 يومًا من اندلاع ثورة الغضب المصرية)، هذا وإن تضامن الشارع المصرى حينها مع “محمد البوعزيزي” التونسى كمقدمات، وإنما جاءت رفضا للواقع المزرى الممتد لسنوات، والذى راكمت أحداثه سلبيات غيرت من حال الدولة المصرية حتى إتسع عرض الشارع الرافض لها بنهاية عام2010، إبان تلك اللحظات التى إنفجرت فيها الأحداث، إحتجاجاً على التردى العام للأوضاع الإجتماعية والاقتصادية والسياسية السيئة لسوء سياسات نظام الرئيس الأسبق “محمد حسنى مبارك”، الذى جاء الى الحكم رئيسا للجمهورية عام 1981 م، عقب إغتيال الرئيس الراحل “محمد أنور السادات”.
فقد تعرضت حكوماته الممتدة منذ ذلك الحين حتى إندلاع الثورة 2010، الى إنتقادات متواصلة لصنوف متنوعة من المعارضة السياسية كما تعرضت للإنتقاد من بعض وسائل الإعلام فى الداخل والخارج وكذا من عدد من المنظمات غير الحكومية، فقد إشتهر بعض تلك الحكومات بشن الحملات المتواصلة على المتشددين الإسلامين، وكان لحكم “مبارك” الممتد دور رئيس فى التدهور الاقتصادي والإجتماعي بالبلاد، بالإضافة إلى التراجع الملحوظ في مستوى التعليم والصحه وإرتفاع معدلات البطالة وإنتشار الجرائم ضد المصرين داخل وخارج البلاد(6).
أيضاً خلال حكمه تصاعد الفساد السياسي وتشبعت علاقاته، فقد أدى هذا إلى سجن شخصيات سياسية وناشطين شباب دون محاكمة، وعلى مستوى الحريات الشخصية، كان بإمكان أي فرد أو ضابط أن ينتهك خصوصية أي مواطن في أى وقت دون شرط، فقد ظل تواصل فرض قانون الطوارئ لأكثر من عقدين، وهذه منظمة الشفافية الدولية، (وهى منظمة دولية معنية برصد جميع أنواع الفساد على المستوى العالمى، بما فى ذلك الفساد السياسى)، جاءت مصر فى تقريرها لعام 2010، فى المرتبة 98 من أصل 178 دولة مدرجة فى التقرير، فى بلد بلغت نسبة من يعيشون من سكانه تحت خط الفقر 40%، حيث لا يتعدى دخل الفرد منهم دولارين فى اليوم.
وفى بلد هي ثاني أكبر دولة تعداداً للسكان في أفريقيا بعد نيجيريا، والأكبر في منطقة الشرق الأوسط، حيث جاوز التعداد حينها 87 مليون نسمة، معظمهم يعيشون بالقرب من ضفاف نهر النيل، على مساحة حوالي 40.000 كيلومتر مربع (15.000 ميل مربع)، دون السعى الحكومى الجاد لإعادة توزيعهم جغرافياً بصورة أكثر تكاملية وأكثر قابلية للبقاء والإنتشار، بل صحب تلك الزيادة تدهورٌ اقتصادي نتيجة فشل سياسات الدولة في الإستفادة من إزدياد الأيدي العاملة.
وعلى هذا إنقسم المجتمع المصري إلى طبقتين ليس بينهما وسط، إحداهما أقلية “تملك كل شيء” وتمثل 20% فقط من الشعب وأخرى أغلبية “لا تملك شيئا” وتمثل 80% من الشعب، وهو الحال الذى سيطر فيه عدد من رجال الأعمال والمستثمرون على هيئات ونظم الحكم فى الدولة، ووجهوا دفة إرادتها لتحقيق مصالحهم، عبر مجموعة من المسؤولين المنتفعين تحت مسمى “حكومات الرأسمالين ـ التكنوقراط”، ما أدى لظهور جيل جديد من الشباب كثير منهم يحمل شهادات جامعية ولا يجدون وظائف مجزية، فكانوا العمود الفقري والوقود الفعلى للثورة حين الإنفجار، فضلاً عن معرفتهم الوثيقة بوسائل الإتصال الحديثة وإستخدامهم الفعال لها في التجمع والتنظيم.
سياسياً، أجريت إنتخابات مجلس الشعب قبل شهرين من إندلاع الإحتجاجات وحصل الحزب الوطني الحاكم على 97% من مقاعد المجلس بزعامة مهندس السياسة والاقتصاد الأول للنظام فى ذلك الوقت أمين السياسات “أحمد عز”، وخلا المجلس من أي معارضة تذكر؛ ما أصاب الجميع بالإحباط، وجاءت تلك الانتخابات مزورة شكلاً وموضوعاً نظرًا لتناقضها مع واقع الشارع المصري أنذاك، وذلك لإنتهاك مخرجوها حقوق القضاء المصري في الإشراف النزية فعلياً على الانتخابات، كما أطاحوا بالأحكام في عدم شرعية بعض الدوائر الانتخابية، لتطالب بعض القوى المدنية بالمقاطعة، وأخرى تشارك سعياً لصفقة مع النظام وتنسحب أحزاب أخرى فى منتصف الطريق، وليتجهوا الى الشارع رفضاً للواقع وتعبيراً عن كارثية الآداء.
في مقابل هذه الخصائص المعوقة والموروثة من حقب سابقة برزت مجموعة أخرى من السمات تدفع في سبيل التطوّر الديمقراطي المنشود وتحبذه كـ: حرية الإعلام والتعبير والحوار العام، وإتساع نشاط المجتمع المدني، وظهور حركات إجتماعية إحتجاجية وبروز أنماط جديدة للتفاوض بين القوى السياسية.
ولتتسارع الأحداث فى فصلها الأخير من عمر النظام، عبر مجموعة من الواقائع حكم النظام من خلالها على نفسه بالإعدام، وعجل بتعامله المخزى من ساعة الرحيل، فمن إعتقال وتعذيب ثم قتل الشاب السكندرى “خالد سعيد” في 6 يونيو عام 2010 على يد عناصر من الشرطه، الى تفجير “كنيسة القديسين” خلال الإحتفال بأعياد الميلاد بعمل إرهابى أُتهمت وزارة الداخلية بتدبيره ولم تتوصل الى من وقف وراءه فعلياً حتى الان، وهى العملية التى أحدثت صدمة في مصر وفى العالم كله، فدفعت كثير من المسيحين للاحتجاج في الشوارع، كما إنضم بعض المسلمين للإحتجاجات. ثم مقتل شاب سكندرى آخر هو “سيد بلال” يوم 6 يناير 2011، على يد رجال جهاز أمن الدولة بعد أن إعتقلوه مع الكثير من السلفين للتحقيق معهم في تفجير كنيسة القديسين وقاموا بتعذيبه حتى الموت.
تلى ذلك تدحرج الأحداث سريعاً، وإنطلقت دعوات إفتراضية على مواقع التواصل الاجتماعى لتنظيم فاعليات تندد بتردى تعامل وزراة الداخلية مع الأحداث، وحدد الشباب لذلك يوما فاصلاً هو ذكرى الإحتفال بعيد الشرطة فى 25 يناير، كأبلغ رسالة صريحة وقوية فى التعبير عن رفض الوقع، ومدوية فى زعزعة حالة الثبات والثقة لدى النظام، ومع تصاعد الأصوات وتعالى الدعوات وإزدياد الزخم، تحرك النظام لتدارك الموقف بإتخاذ بعض القرارات كان أقواها تعين “مبارك” نائبا له هو اللواء “عمر سليمان”، لكن دون جدوى؛ فقد إنتقل الشارع من حالة الإعتراض الى المطالبة بإسقاط النظام، فى دعوى كان لها عظيم الصدى على مختلف الميادين والساحات مطالبين بالرحيل وتولى الجيش مسؤولية إدارة شؤون البلاد.
وبعد أن وصل الأمر الى طريق مسدود، أُضطر النظام الى النزول عن رغبة ملاين المتظاهرين، ليعلن نائب الرئيس “عمر سليمان” فى السادسة من مساء الجمعة 11 فبراير 2011، في بيان قصير تخلي “مبارك” عن منصبه وتكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد، ولتتزايد الحشود وتتدفق إلى “ميدان التحرير” ومختلف المحافظات المصرية إحتفالاً برحيل النظام، ولتعم الإحتفالات أرجاء الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، إبتهاجًا بإنتصار الثورة وتنحي “مبارك“، ولتتولى القوات المسلحة المسؤولية.
وكان من أهم تداعيات الثورة السريعه، بدء سلسلة من التحقيقات مع عدد من رموز النظام وحبس العديد منهم علي ذمة قضايا تربح وفساد، ومن أشهر هؤلاء “حبيب العادلي” وزير الداخلية الأسبق و”زهير جرانة” وزير السياحة الأسبق و”محمد المغربي” وزير الاسكان الأسبق و”أحمد عز” من كبار رجال الأعمال و”أحمد نظيف” رئيس الوزراء الأسبق وغيرهم، وصدر قرار من النائب العام بمنعهم من السفر لحين التحقيق معهم في القضايا المنسوبة إليهم، كما أُتخذ قرار بتجميد أرصدة بعضهم لحين الإنتهاء من التحقيقات(7).
2ـ الإطار الإقليمى والدولى:
لا يمكن فصل ما حدث للمنطقة ما بعد العام 2010 تحت مسمى ثورات الربيع العربى وما تلاها من تطورات وأحدث، لازالت تتكشف ملامح مقدمات التخطيط لها من الخارج ما قبل وقوعها بسنوات شيئاً فشيئاً حتى الأن؛ عن واقع التفاعلات بين القوى العربية فى المنطقة فيما بينها؛ والتى لم تخلوا يوماً من وجود خلافات بين أنظمة حاكمة وأخرى، كما لم تتخلص يوما من علة إدراة التفاعلات المشتركة إنطلاقاً من تصنيفات وتوجهات واهيه، بل جسدت واقعاً تفاعلياً فريداً فى إدارة الأمور، مفاده ترسيخ ظاهرة المحاور العربية ـ العربية، وهو ما سمح لغيرها من قوى الخارج التى تتصيد بدقة نقاط ضعف كهذه لتسرع فتخترق الكيان العربى المستهدف أصلاً من خلالها(8).
وصلاً على ذلك لا يمكن أيضا فصل ما حدث للمنطقة فى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، عن جوارها الإقليمى والشرق أوسطى، الذى يتصيد دوما الفتك بعروبتها شبه المستقرة، عبر قوى إقليمية تسعى لنشر وتنفيذ مشاريعها الخاصة، كتركيا الأردوغانية التى ترغب بصورة قوية فى إعادة أحلام الإمبراطورية العثمانية على ما تبقى من أشلاء الكيان العربى فى الشرق الأوسط، وأيضا المشروع الإيراني في المنطقة ..
ولا يغيب بالأساس عن ثلاثى تلك القوى المشروع الصهيونى لدولة الإحتلال الاسرائيلى التى ما فتئت تسعى يوماً، لتفتيت المنطقة العربية وتدمير جيوشها التى تقف حائط السد الأول أمام تنفيذ أوهام حلمها المزعوم (دولة إسرائيل الكبرى)، وذلك إما عبر تنفيذ سيناريو إنهاء ما يسمى الصراع العربى الإسرائيلى شكلاً وموضوعاً بلا رجعة والواقع الحالى خير دليل يؤكد، كمقدمة لإعادة تحركها التوسعى جغرافياً مرة أخرى لضم مساحات عربية الى حدودها الحالية، فى إطار إعادة إحياء حلم دولة (بنى صهيون من النيل الى الفرات) لكن بصورة أكثر فاعلية، وهو الأمر الذى يصعب حدوثه ما بعد هزيمتها فى حرب أكتوبر 1973 على يد القوات المسلحة المصرية والذى ما كان ليتحقق دون المساندة العربية.
أيضاً لا يمكن فصل ما حدث للمنطقة الى جانب ما تلا قراءته من أهداف إقليميه، عن سياقات التفاعل والتنافس بين القوى الكبرى وفى القلب منها مقدمات إحياء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الإتحادية؛ حيث إنكشاف وتأكيد الرغبة الحثيثة لروسيا فى إعادة التمركز فى الشرق الأوسط مرة أخرى(9).
والتى يقابلها سعياً صهيوأمريكيا خالصاً، لضمان السيطرة على منابع النفط وضمان أمن الإبنة المدللة إسرائيل ككيان غير عربى منبوذ جغرافياً، وبين البينين ضمان تدفق الأموال العربية الى الخزينة الأمريكية عبر توقيع مزيد من صفقات السلاح مع الملكيات الخليجية تحت زريعة تأمينها من الإستهداف الإيرانى الذى يتحين لحظة الفتك بها، كل ذلك تمهيداً لإعادة التموضع الأمريكى فى منطقة البلطيق لتطويق روسيا وفى منطقة بحر الصين الشمالى لوقف سرعة التمدد والإنتشار للإمبرطورية الصينية الصاعدة.
وخارج تلك القوى والتفاعلات السابقة، لم تغب دول الإتحاد الأوروبى عن التواجد بالمشهد بصورة أو بأخرى لضمان مصالحها أيضاً، إما عبر سعى أوروبى مشترك لإعادة رسم العلاقة مع دول جنوب المتوسط وشمال أفريقيا كإتفاقية الشراكة الأوروبية مع دول شمال أفريقيا وغيرها، أو من خلال سعى أوروبى فردى لإعادة تفعيل وتعزيز أغلب العلاقات الثنائية مع دول الشرق الأوسط وغيرها من دول القارة الأفريقية، كإعادة تعزيز العلاقات الفرنسية مع تونس والمغرب والجزائر وغيرها، وما السعى البريطانى والألمانى وغيره عن ذلك ببعيد(10).
3ـ مقدمات التحول:
عطفا على ما سبق من تشريح، للواقعين الإقليمى والدولى، وما عايشهما من واقع ثالث عربى مرتبك ومعقد، وبإضافة ما تلا إستعراضه من واقع رابع للداخلين التونسى والمصرى السابقين لإندلاع ثورات الربيع العربى، وبإستحضار صورة مصغره لنموذج “إستون” فى إدارة التفاعلات السياسية.
شكل التفاعل ما بين كل هؤلاء خلال الفترة السابقة لإندلاع الثورات، بيئة شائكة أنتجت واقعاً ديناميكياً هوت على عتباته أنظمة الحكم البائسة، وإنكشفت على جدرانه مجموعة من الترتيبات والترطبيات الغير شرعية بين العديد من تلك الأطراف الفاعلة سواء فى الداخل، حيث إرتباط بعض القوى والأحزاب والأشخاص بأجندات خارجية تظهر حسن نية فى سعيها لإعادة رسم الواقع العربى وفق طموحات شعوبه عبر آليات ديموقراطية، وتبطن ربما ما تجهله هى من تبعات إنسياقها فى رحاب تنفيذ تلك الإستراتيجيات التكتيكية المصاغه سلفاً لتدمير المنطقة من الداخل على يد أعدائها من القوى الخارجية.
الى جانب ما سبق، لم تكن تدرك بعض القوى المخلصة وغيرها من جموع المواطنين ـ الذين ضاق بهم أفق الواقع وأصاب أمامهم قنوات التغيير المتاحة إنسداد مزمن يصعب مع وجود الأنظمة الحاكمة إعادة فتحه كما يصعب من خلاله التغير ـ خطورة السعى لإسقاط تلك الديكتاتوريات دون الإلمام بتبعات ما سيلى ذلك من واقع هلامى سيصعب إيصاله الى بر الأمان فعليا بصورة مطلقة، بل ربما لم تكن تدرك تلك القوى ما يحاك لأوطنها تحت مسمى إعادة نشر الديموقراطية وفى ظل ما رفع من شعارات ثورية براقة وصادقة لكنها ليست المقصودة فعلا، وربما لم تدرك تلك القوى الوطنية الراغبة فى إحداث تغيير فعلى يضع بلادها على عتبات التقدم والتنمية والحياة الديموقراطية، خطورة وضع يدها فى يد القوى الزائفة وغيرها من تنظيمات الظل وجمعات المصالح المرتبطة بأجندات خارجية.
كما لم تستيجب كل القوى الثائرة ما قبل لحظة الإنفجار، الى مساعى الحكومات فى إحتواء الموقف بعد أن فقد الجميع كل الثقة فى صدق دعواتها أو لتأكد تلك القوى من عدم جدوى العمل مع تلك الحكومات للإصلاح بصورة أكثر نفاذية، ولذا إستجاب المخلصون سعياً منهم فى غد أفضل لأوطانهم، كما سعى المغرضون فى الداخل والخارج كلاً فى طريقه لتحقيق مآربه، فيما لم تستطيع تلك الحكومات الوفاء بمتطلبات شعوبها الثائرة، كما لم تستطيع السيطرة على الوضع المتفاقم، فآثرت الرحيل السلمى عن السلطة، تاركتً الغد تديره كل الفواعل ذات الصلة، ليحقق الجميع من خلاله مآربه الشخصية، وذلك فى ظل محدودية أوراق الضغط بيد القوى المخلصة.
لتضع مجمل هذه التناقضات وغيرها ثورات الربيع العربي في إمتحان عسير، فها هى التحديات الخارجية لازالت تلعب دورا سلبياً في ترسيخ مبدأ الإستقلال الوطنى في رسم المواقف المعلنة للثورت، وهو ما عجل من فك الإرتباط بين القوى المنتجة للثورة، وقاد فى بعضها إلى الإستمرار في نفس المسارات التنموية الاقتصادية والخيارات السياسية التي كانت تتبعها حكومات ما قبل الثورة؛ فإكتفت ببعض الإصلاحات السياسية في مسألة الحريات والعدالة الإجتماعية ومحاربة الفساد على الصعيد الداخلى، وثبت الدور السلبي الذي تلعبه القوى الكبرى بإنحيازها لمصالحها وضغوطها على أطراف الصراع بصورة واضحة، وهو ما أثر على الحكومات التي تشكلت بعد الثورة فى (تونس، مصر)؛ حيث لم ترضى طموحات جماهيرها العربية الثائرة حتى الان(11).
أ ـ تونس:
ففى تونس بدأت تظهر مقدمات التحرك المنفرد وربما السعى شبه المصلحى من بعض القوى الى السطح بعد رحيل “زين العابدين” بساعات، فبعد أن أعلن الوزير الأول ورئيس الحكومة، “محمد الغنوشي”، توليه مهام رئيس الجمهورية نظراً لغياب الرئيس “بشكل مؤقت”، عاد المجلس الدستوري بعدها بيوم واحد، ليُعلن تولي رئيس البرلمان، “فؤاد المبزع”، رئاسة الجمهورية مؤقتاً، لحين إجراء انتخابات مبكرة، وربما لم يروق لكثيرين ومنهم حركة النهضة التونسية، التى أنهكت “زين العابدين” وحزبه فى صراع سياسى لسنوات، أن يعاد تولى السلطة ولو بشكل مؤقت أحد رجالاته، أو ربما جاء ذلك كحالة وسط ما بين ترك الرئاسة المؤقته بيد “الغنوشى” أو إسنادها للجيش ليدير هو شؤون البلاد(12).
وعلى وقع تلك التفاعلات وغيرها بين مختلف القوى، زاد من تعقيد معادلة الإنتقال الديمقراطي الممتدة جدلية الصراع بين قديم قامت عليه الثورة وإنتزعت منه السلطة الظاهرة، إلا أنه لم يمت بل إستكن لفترة ثم ما لبث أن أخذ يستعيد مواقعه الخلفية من جديد، وبين جديد لم يستكمل بعد إستحكامه، لا سيما وقد إنتقلت قوى الثورة من تحالف عابر لإختلافاتها الأيدولوجية في مواجهة الإستبداد إلى صراع أيدولوجي محموم بلغ حد التنافس على التحالف مع قوى الثورة المضادة.
لكن ظل الثابت، أنه ربما لم تكن الثورة التونسية ثورة نخب، وهو سر نجاح طورها الأول، حيث تمكنت في ظرف قياسي من إسقاط رأس الإستبداد، لكن نفس هذه الخاصية هي التي منعت في طورها الثانى بناء دولة الثورة، وأجهد قواها إستدامة السعى الهادف لتحقيق معادلة إعادة الأمن والاقتصاد وحرص القوى الثورية على تنحية كل ما له علاقه بالماضى، فى مقابل سعى من يرتبطون بالماضى الدؤوب لإعادة إنتاج المشهد لصالحهم مرة أخرى من جديد(13).
وكان الخطأ التاريخي الذي أُرتكب بتونس غداة الثورة، هو حالة الفراغ القاتل في هرم السلطة، حيث تسلمت عناصر من النظام القديم خلال الحكومتين الأولى والثانية مقاليد الدولة، وبدأت في وضع أعمدة الإنتقال الى مرحلة إعادة المشهد عبر إرادة الشعب من جديد، وتمكنت في ظرف زمني وجيز من إمتصاص جزء كبير من المد الثوري، ووضعت الشعب التنوسى فى معضلة مفاضلة قاسية بين إعادة الأمن والاقتصاد على يد بعض ممن يحسبون على الماضى، وبين الجنوح تجاه مواصلة المسار الثورى لكن مع إحتمالية تصاعد حالة الإحتقان الأيدلوجى والسياسى بين ميكانزمات الداخل التونسى بلا جديد.
ب ـ مصر:
وفى القاهرة، لم يختلف الأمر كثير بل ظل الجدل مثار لمدة، بين من يشكك فى شرعية إنتقال إدارة المرحلية الإنتقالية، الى قيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، كون ذلك جاء عبر تفويض معلن من سلطة سقطت شرعيتها بعد أن ثار الشعب عليها، وأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة حينها لم يكن سوى إمتداد لفكر وعقلية وشرعية النظام البائد دون أى جديد، وبين قوى ثورية، أنتجت حادثاً جللاً هو رحيل نظام “مبارك” والذى كان يعد وقتها درباً من المستحيل.
ولذا إنقسمت بين فريقين أحدهما يطالب بإعادة تسليم السلطة الى مجلس رئاسى مدنى، يتم تشكيله من خلال الإجماع على ترشيحات القوى المختلفة لعدد من الأسماء التى شاركت فى الثورة ولا يوجد عليها فى الأعم الأغلب أى محاذير، وفريق آخر آثر الإنتقال الآمن فى ظل وجود سلطة فاعلة وقوة قادرة على حسم وضبط الشارع ولملمة كل القوى تحت جناحها، وهى الإستمرار فى إسناد إدارة المرحلة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، والذى ربما كان لبعض من يؤازره من الباطن الرغبه فى ذلك، إما مخافة إسناد السلطة الى قوى آخرى تجر البلاد فى ظل حالة الفوضى سريعا الى الهاوية، خصوصاً وأن الوضع فى دول الجوار ليبيا وسوريا لم يكن يبشر بالخير(14).
أو ربما لما كان يمتلكه المجلس الأعلى للقوات المسلحة حينها، من قدرة على إدارة الإختلافات الإنتقالية بين القوى المختلفة دون أن يتدخل بصورة أو بأخرى فى أى مواجهات أو مشاحنات مع أىً من تلك القوى، حتى وإن ظل الخلاف مع بعضها ساكناً تحت السطح إما كنوع من الموائمة المتبادلة، أو لعدم مجىء لحظة فك الإرتباط المناسبة بينهما والقفز المنفرد من قطار العبور.
إلا إنه ورغم كل ما سبق، ظلت جدليات التفاعل بين مختلف القوى فى الداخل والخارج، تلك التى فى صف الثورة قولاً وعملاً والأخرى التى ما تخلت يوما عن رغبتها المتواصلة فى تحقيق مصالحها المنفردة، تتجاذب الحدث فى تونس ومصر وتسعى جاهدةً لإدارته بصورة تضمن لها القدر الأكبر من تحقيق مصالحها المستقبلية، حتى وإن تعارضت تحركاتها ما بين لحظة وأخرى، ما دام يضمن لها ذلك التماهى الحفاظ على مصالحها المطلقة.
المحور الثانى:
إشكاليات إدارة مراحل التحول فى الدولتين
1ـ مسار التحول..المفترض والواقع:
إتسمت عملية الإنتقال السياسى ما بعد الثورات في أغلب دول العالم بدرجة كبيرة من التعقيد، من ناحية، وبتعدد مساراتها والإختلاف الواضح في نتائجها من ناحية أخرى، ويعتمد ذلك إلى حد كبير على مستوى التطور الإجتماعي والاقتصادي والثقافى وعلى شكل وطبيعة العلاقات بين القوى الصاعدة والأنظمة المثار عليها فى الداخل، وعلى السياق والظرف الإقليمى والدولى السائد في تلك اللحظة التاريخية التي سيحدث فيها هذا الإنتقال، ولذا بات من الصعوبة بمكان نقل خبرة بلد ما في إدارة تلك العملية بشكل ميكانيكي الى التطبيق الحرفى في بلد آخر، ولكن ظل الثابت المستفاد من أغلب تلك التجارب التى مرة بها هذه البلدان على إختلاف تنوعاتها السياسية والفكرية، أن لها عدد من السمات البارزة والدروس المستفادة والتي يمكن أن تعين على فهم وإدارة أى عملية إنتقال أخرى.
ومنها على سبيل المثال، طول الفترة الزمنية التى يتم خلالها إنهاء متطلبات المرحلة، فقد إستغرق إجراء أول إنتخابات نيابية حرة في دول شرق وجنوب أوروبا على سبيل المثال فى القرن الماضى فترة تتراوح ما بين 4ـ7 أشهر في حدها الأدنى في اليونان ورومانيا وبلغاريا وألمانيا الشرقية، ووصلت إلى 18 شهر في البرتغال وأسبانيا وبولندا والمجر، أيضا تميزت تلك المراحل بتصاعد وإستمرار حالة السيولة الحركية لمسارات عملية الإنتقال وإكتساءها بوضعية اللايقين بحكم طبيعتها، وثالث هذه السمات أن نتاج المرحلة مجرد فعل مركب لحاصل تفاعلات النخب والجماهير وتأثير القوى الإجتماعية كلاً بما يملك من أدوات الضغط قدر ما يستطيع، فيما ترصد الثمة الأخيره مدى إلتزام المسؤولين عن إدارة تلك المرحلة بتعميق الإنتقال الديمقراطى من عدمه(15).
وبالإجمال تعد المرحلة الإنتقالية وضعاً مؤقت وتالى لوضع غير مرغوب فيه إستمر فترة طويلة من الزمن نسبيا يرجي تغييره في سياق إستشراف عمليات التغيير والتحول تمهيدا لاعادة بناء الوطن وفق الأحلام الثورية قدر المستطاع، وعليه ما يزال التحول الديمقراطي فى مجتمعات “الربيع العربي” حلماً بعيد المنال، وفى القلب منه تونس ومصر، حتى وإن إستطاعت تلك الدول الإنتهاء من إعادة بناء نظامها السياسى وإنتاج مؤسساتها الجديدة من خلال الإلتزام بالمسار الدستورى وفق المسار المرسوم ما بعد الرحيل.
فلازالت تعانى تلك المؤسسات المنتجه أزمة بنيوية تخترق مسارات وترتيبات الخروج من حالة السلطوية المزمنة وتصفية إرثها في مجتمعات ما بعد الثورة، الأمر الذي يتطلب ضرورة الوقوف على تلك الإشكاليات التى أوصلت المسار الثورى الى إنتاج مؤسسات شبه تقليدية لكنها تعد إنعكاساً حقيقياً لحالة العجز الديمقراطي للواقع العربي، والتي لازالت الثمة الواقعية للدولة القطرية منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى الآن. والتى وضعت باستمرار حواجز ما بين العرب والديمقراطية طوال السنوات الماضية، ما أدى إلى إرباك مسارات التطور السياسي والتحول الديمقراطي في الوطن العربي، وأتاحت الفرصة لإستمرار أنظمة تعسفية في إحتكار السلطة، لذلك تبدو مجريات “المرحلة الانتقالية” في مجتمعات الثورة متعثرة، خاصة وأن الشعوب العربية ربما تختبر لأول مرة فى تاريخها الحكم الديمقراطي وفق ما تريد.
وما يمكن ملاحظته في هذا الشأن أن الجزء الأكبر من الصعوبات التي حالة دون تجاوز عتبة “المرحلة الانتقالية” تحكمت فيه العوامل نفسها التي كانت تعوق نجاح أي تجربة ديمقراطية عربية في حقبة ما قبل الثورات وهى (هيمنة السلطة على اقتصاد الدولة، وأزمة الأحزاب السياسية، وطبيعة الثقافة السياسية السائدة، وهشاشة المجتمع المدني، وتعقيدات التركيبة الاجتماعية، واستمرار الصراعات العربية ــ العربية، وغياب الدولة النموذج، والتدخل الخارجى وإرتهان السلطة للأجنبى)(16).
2ـ إشكاليات التحول:
من هنا، مرت دول الإنتقال السلمى فى الربيع العربى (تونس ومصر)، ما قبل الخروج من بوتقة الصهر الثورى والإنتقال المرحلى، بمجموعة من المعضلات والتجاذبات البينية بين المكونات المختلفة المسؤولة عن إعادة تدوير وإنتاج المرحلة، والتى جاءت نتاجاً طبيعياً لسياسات أنظمة سلطوية زائلة كانت تحتمي بأدوات قمعية، ولا تقيم إحتراماً لأي حقوق سياسية، فلم تعود شعوبها على كيفية التكامل الجمعى ما بين المكونات المختلفة، كما كانت إنعكساً لواقع ثقافى وفكرى ملتبس وآخر إقتصادى وسياسيى وأمنى إنتهازى مصلحى، ثارت عليه الشعوب وأنتج كيانات مشوشة، لم تستطيع إدارة المرحلة الإنتقالية كما ينبغى وفق الطموحات الثورية.
وظلت مسارات التحول الديمقراطي في تونس ومصر رهينة نضج إستراتيجية هؤلاء الفاعلين، كما إرتبطت أيضا بمدى نجاح مسار الإصلاح السياسي والدستوري الممزوج بالعدالة الإجتماعية وإعادة توزيع الثروة والسلطة ومدى حرص هؤلاء على تحقيق أهداف الثورة من عدمه، وتناوب على إدارة المرحلة بموجاتها المختلفة فى كلا البلدين، مجموعة من القوى والساسة إقتربت من طموحات الشارع الثورى وداعبة أحلامه حيناً، وإنفصلت عنه وأدارت ظهرها إليه أحيانياً أخرى، وظل الثابت المتغير فى مكنون وخلفيات تلك القوى بتنوعاتها مواصلة السعى جاهدةً لتطويع الواقع الثورى قدر المستطاع حتى تضمن من خلاله مصالحها الشخصية مستقبلاً ما أمكن.
أ ـ الموروث الفكرى:
فشكل الواقع الفكرى والموروث الثقافى لتلك القوى خليفياتها الذاتية التى تعاطت مع الواقع منذ اللحظة الأولى التى رحل فيها رأس النظام عن السلطة فى تونس ومصر، فسعت من خلاله بصورة منفردة لتطويع الواقع لصالحها وإحتواء الآخرين معها بصورة أو بأخرى، فمن قوى ليبرالية سعت جاهدةً لإعادة بناء الدولة وفق وجهة النظر الفكرية المميزة لمكنوناتها المدنية، والتى ترتكز فى المقام الأول على ضرورة تنحية المكون العسكرى جانباً بالكلية من تلك المعادلة، متجاهلةً ما لهذا المكون من دور رئيس فى إدارة وحماية أمن حدود الدولة والتى لا تقتصر على العمليات العسكرية المجنذرة وإنما تمتد الى مناطق فى العمق المدنى لا أحد يجهلها، بل يجعل من الصعوبة والخطورة الإصرار فى تمرير وجهة نظرها دون محاذير، لكنها تجاهلت فى ذلك ما لهذه المجتمعات من خصوصية أمنية وعسكرية سعى القائمين على أركانها دوماً لتهيئة الأوضاع الداخلية لضمان حماية الأمن القومى للدولة حتى وإن شاب أدائها فى المجال المدنى المؤسسى بعض القصور لمدة.
كما سعت ذات القوى لإحتواء الآخر ذو الخلفية الإسلامية، فأرهبت الشارع من خطورة إيصاله الى السلطة تحت أى مسمى، محذرةً إياه من خطورة الإنزلاق الى دولة “ثيوقراطية”، لكنها تجاهلت فى ذات الوقت ما لمجتمعاتها من خلفيات عقائدية يشكل فيها الموروث الدينى لدى الرجل العادى النسبة الأكبر من مكنونات الشخصية، كما تجاهلت ما لهذه القوى من تاريخ سياسى وخدمى إرتبط بالشارع منذ اللحظة الأولى وليس من الإنصاف تجاهل تأثيره فى هذا الشارع الذى أصبح فى معظمة أثير ذلك الهوى، وإن جهل بسطائه ما وراء الدعم الخدمى المقدم من أهواء شخصية وأهداف سياسية مُرحلة لهذه التنظيمات.
على الجانب الآخر سعى هذا الإسلامى بتنوعاته المختلفة، وفى القلب منه جماعة الإخوان المسلمين، سريعاً الى التعامل مع الواقع من منطق الفرصة التى لن تعود جاهداً فى الإستحواذ على مكتسباته ما أمكن، حتى وإن دفعها ذلك الى الوقوع فى تناقضاتٍ عدة، جعلت صورتها فى النهاية أمام الآخر أكثر الأطراف إنتهازية. فتقاربة مع الجيش تارةً ومع من كانت تسميهم بالعلمانيين تارةً أخرى، وثالثةً تقاربة مع الخارج بل لم تخجل من وضع يدها فى يد من ظلت سنيناً تُجيش الشارع ضده، بل كان من أسباب رحيل النظام البائد نعتها الدائم بالتقارب معه (التقارب مع أمريكا وإسرائيل)، فوقعت حركة النهضة التونسية فى شراك التقارب مع بقايا نظام “زين العابدين” وذلك فى سبيل بقائها وسيطرتها على الوضع ما أمكن، وفى مصر سعت الجماعة جاهدة للتفاوض مع المجلس العسكرى من ناحية وفى ذات الوقت تضع يدها فى يد القوى المدنية مطالبةً معها بضرورة رحيل العسكر، وسرعة تسليم السلطة الى حكم مدنى منتخب.
وما بين المتناقضين وتحت زريعة الحرص الإخوانى على التمكين، خالفت الجماعة أمام رجل الشارع العادى ثوابت لطالما عايرة النظام الراحل بإفتقادها، بل ووقعت فى شراك الجمع بين المتناقضات سواء مع غيرها من القوى الأخرى أو مع ذاتها حين تصادمت تصريحاتها المعلنة تحت القبة مع قواعدها المنتشرة فى ميادين البلاد شرقاً وغرباً، فحتى وإن حازت ثقة الشارع فى جولاتها التصويتيه الأولى وأحرزت أعلى النسب فى الصندوق وحصلت على أكثرية المقاعد فى المجالس المنتخبة، لأنها كانت أكثر القوى تنظيماً وإستعدادً وحشداً؛ لم يشفع لها ذلك أمام الشارع تخاذلها فى تلبية تطلعاته الثورية، فإهتزت شرعيتها وتراجعت شعبيتها بعد مدة، وإنكشفت رغبتها فى الإستحواذ أمام الجميع، فهانت على الكل فسعى الجميع للإطاحة بها(17).
أما ثالث تلك القوى، وهى المؤسسة العسكرية فى تونس ومصر، لم تجد الشعوب سواها مؤهلأً من بين منظمات المجتمع العربى لضبط مسار عملية التحول فى تلك الدول وحمايتها من الإنحراف أو الوقوع فى أسر مخططات فئوية، فإليها لجأت وصارت بحكم الآداء هى الخصم والحكم.
وبرغم الدور المحورى والمهم الذى لعبته فى إدارة المرحلة سياسياً وحرصها على ضبط الأمن المنهار فى وقت حساس من عمر الوطن، ورغم خلفياتها العسكرية والفكرية، جاءت التجربتان التونسية والمصرية خير دليل على الدور الكبير الذى قامت به القوات المسلحة فى البلدين للحفاظ على كيان الدولة من التفكك فى ظل إنهيار القبضة الأمنية داخلياً فى الحالتين عند أول منعطف حقيقى للثورة، ولم ينحازأ كغيرهما بتوجيه فوهات المدافع الى صدور الثوار كما حدث فى ليبيا وسوريا واليمن، فتحول دور القوات المسلحة التى وقفت خارج حالة الحياد السلبى المفترض أمام الحالة الثورية إلى حتمية الإستجابة للظرف الضاغط الذى تطلب مساندتها للثورة خلال المرحلة الانتقالية، هذا وإن اختلف حجم ذلك الدور المفروض على الجيشين طوال تلك الفترة.
فلم تكن ظاهرة تدخل الجيوش العربية فى الحياة السياسية بجديدة، فهى سمة رافقت تلك الجيوش منذ تأسيسها، فعلى الرغم من غياب وتغييب المؤسسة العسكرية المصرية عن الساحة السياسية والاجتماعية فى السنوات التى سبقت ثورة 25 يناير، إلا أن مواقفها خلال الأزمة، بعد إنجاز التغيير، أثبتت أن هذه المؤسسة على دراية كاملة بالعوامل الداخلية والخارجية المؤثرة فى الحياة السياسية المصرية، فضلا عن إمتلاكها تصورات شاملة عن طبيعة التنافس والصراع بين مكونات المجتمع المصرى وتياراته الفكرية.
كما أثبت الجيش التونسى من خلال أدائه فى أحداث حركة التغيير والفترة الانتقالية ما يتمتع به من مهنية عالية، وبناء مؤسسى متين، بالرغم من صغر حجمه قياساً بغيره، فضلا عن إدرك كلا الجيشين أن واجبهما المهم والرئيسى عند وجود مخاطر تهدد الوحدة الوطنية هو حماية الوطن والشعب معا، كما استطاعا فرض دور مستقبلى لهما فى مستقبل البلد، فضلا عن تمكنهما من المحافظة على امتيازاتهما، ومن إبقاء علاقاتهما العسكرية الدولية خارج ساحة الصراع السياسى الداخلى(18).
ب ـ الإشكاليات الأمنية:
مع تطور الأحداث وتراكم مؤشّرات الإنفلات الأمنى خلال المرحلة سواء داخل تونس ومصر أو على حدودهما المشتركة مع ليبيا أو خارجها فى البيئة الشرق أوسيطة المضطربة فى العراق وسوريا وأفريقيا واليمن، واجه المسؤولون عن إدارة تلك المرحلة تهديدات أمنية عديدة ومتنوعة، وقفت حائلاً أمام مواصلة الإستسهال فى إستمرار فتح الميادين لمواصلة الزخم الثورى، حتى تحرص وترعى تلك الميادين أُكلها للنهاية دون أن تتخطفه الأهواء الفئوية أو يُفرض عليها دون التمكن من إعادة إخراجه كما ينبغى(19).
فمن تصاعد خطر الغياب الشرطى وإنعدام أمن المواطن والممتلكات فى الداخل وإقتحام السجون، وإنتشار العنف والبلطجة والسرقه والجريمة شبه المنظمة وعودة الاعتماد على العصبية والقبيلية والمجهود الشخصى فى إعادة الحقوق المسلوبة وحمايتها، الى تصاعد خطر العنف الجهادي سواء الهارب من بعض السجون أو القادم من خارج الحدود أو الآخذ فى التبلور شيئاً فشيئاً فى الداخل والخارج ترعاه قوى متعددة، ففى تونس أفضت التسويات التي أنهت الأزمة السياسية وأمّنت تواصل الانتقال الديمقراطي، إلى عودة النظام القديم مقابل إدماج حركة النهضة الإسلامية، وأغلقت عمليّاً إمكانيّة إحداث تغيير جذري بالطرق السلمية، ما دفع جزءً من المجتمع إلى خيارات متطرّفة. فلئن ساهمت حركة النهضة في تأمين المسار الانتقالي بقبولها تسليم الحكم للتكنوقراط، وإقرارها بهزيمتها في الانتخابات التشريعية، وقبلت المشاركة في حكومة “الحبيب الصّيد” من موقع لايتناسب مع حجمها الانتخابي، شكل تنازلاتها الإيديولوجي كالنصّ على الشريعة في الدستور، أو تجريم التكفير، أو رفضها إقصاء رموز النظام القديم في إطار التأقلم والتعامل البراجماتي مع موازين القوى المختلفة، فقد فتحت بذلك الطريق للتيّارات الجهادية التي تسعى إلى التعبئة باسم الدفاع عن الإسلام ومحاربة عودة النظام الإستبدادي الذي حكم البلاد منذ الاستقلال.
وذات الأمر الشبيه حصل فى مصر، فرغم قيام الرئيس المعزول “محمد مرسى” بالإفراج عن بعض المعتقلين بالسجون فى قضايا وتفجيرات إرهابية محسوبة على عدد من التنظيمات المتطرفة، سريعاً وجهت تلك التنظيمات سهام فتواها التكفيرية للسلطة الحاكمة، بل بارزت تلك السلطة بعدد من العمليات والتفجيرات فى سيناء ما وضع الجميع حينها فى مأزق، كما لايزال الوضع الحالى يعانى من تبعات تلك التكتيكات الإخوانية ما قبل 30 من يونيو 2013 وما بعدها، كما مثل تحوّل الجارة ليبيا إلى قاعدة خلفيّة لإستقطاب الجهاديين التونسيين والمصريين وتدريبهم، خطراً حقيقياً بالنسبة لتونس ومصر، خصوصاً أنّ قيادات جهادية من البلدين وجدت ملجأ لها هناك، كـ”سيف الله بن حسين” المعروف بـ”أبي عياض”، زعيم تنظيبم أنصار الشريعة التونسى(20).
وهو الأمر الذى فرض نفسه جلياً على الحكومات المتعاقبه فى إدارة المرحلة فى كلا البلدين ووضعها أمام معضلة عدم تمكنها من الإجهاز على الإرهاب والقضاء عليه فى ظل وضع أمنى متردى تتزايد فيه إنشطار تنظيمات الإرهاب وتتسع رقعته، وبين مواصلة السعى فى تثبيت ركائز الوضع السياسى والاقتصادى الهش أصلاً، ما لم تستطيع إنعاشه والارتقاء بحالته، وما بين الحالتين أُضطر القائمين على الاستجابة لتداعيات ذلك وانعكس على سلوكهم الدستورى والثورى، ودفع السلطة للعودة الى فرض قانون الطوارىء وإصدار قانون مكافحة الارهاب، ونشر المزيد من قوات الجيش والدرك، وهى البيئة التى تراجعت فيها القدرة على حماية الحريات الفردية كما ينبغى، كنتيجة طبيعة لتلك الحالة الملغمة، والتى ربما سمحت فى بعض الأوقات لضعاف النفوس هنا وهناك فى إستغلالها لتحقيق مآرب شخصية، فإرتكبت حماقات أساءت للسطلة القائمة سواء بعلمها أو بدونه(21) (22).
ج ـ الإشكاليات الاقتصادية:
يحتاج قطار ثورات الربيع العربي فى تونس ومصر، الآن إلى إعادة التفكير المتميز بالعقل والعلم، لأن متطلبات الإنطلاق إختلفت عن مقومات الإنجاز في تحقيق أهداف الثورة الاقتصادية، فمع تعاقب الحكومات المختلفة على إدارة موجات الإنتقال فى تونس ومصر، لم يلبى أياّ منها الطموحات الثورية التى جادت بأرواحها فى سبيل العيش والحرية والعدالة الإجتماعية، حتى وإن داعبت بعض الحكومات تلك الطموحات على مضض، لكنها ظلت أثيرة التوجهات الرأسمالية التى تدور فى الفلك الغربى والتى لا تراعى حقوق الطبقات المعدومة والسواد الأعظم من الشعوب الثائرة، وذلك إما مخافة أن تجلدها تلك القوى العالمية بسياط العزلة والعقوبات وتصفية إستثماراتها الأجنبية، أو مخافة تحريك تلك القوى الرأسمالية فى الداخل لشرائح معينة من المجتمع ضد تلك الحكومات عبر ما تمتلكه من منصات إعلامية وشبكة علاقات إقتصادية معقدة.
ولذا حين إستجابت تلك الحكومات لتطلعات شعوبها، وقامت فى بداية الأمر بإلقاء القبض على بعض القيادات السابقة فى قضايا فساد وتربح مالى واضحة، لم تواصل المسار الى نهايته وكانت مجرد مناورة لإمتصاص الغضب الشعبى، فلم تصدر قوانين ثورية ولم تتخذ إجراءات إستثنائية، بل تركت هؤلاء للقضاء العادى حتى خرجوا دون إدانة أو تطبيق عدالة ناجزة(23).
ففى تونس، حافظت الحكومة الإسلامية برئاسة السيد “حمادي الجبالي”، على التوجه الاقتصادي النيوـ ليبرالي الذي كان يسير فيه النظام السابق، أي ذلك التوجه الواضح نحو الإبقاء على إرتهان الاقتصاد التونسي للنظام المالي العالمي تحت ضغط المؤسسات الدولية كصندوق النقد والبنك الدوليين، وطبيعة العلاقة بأمريكا التي وصفها “الغنوشي” بعد فوزه الانتخابي بـ”الصديق التاريخي”، رغم تعهد ذات الحركة في برنامجها الإنتخابي حينها بتحقيق معدل نمو سنوي يناهز 7% خلال الفترة ما بين العامي 2012 و2016، وهو ما من شأنه بحسب “النهضة” أن يرفع الدخل السنوي للفرد بتونس من 6300 دينار (4491 دولاراً) في العام 2011 إلى عشرة آلاف دينار (7129 دولاراً) في العام 2016(24). ولكن بعد سنة من حكمها، تساءل التونسيون على إختلاف مرجعياتهم الفكرية والسياسية “كيف ستحقق النهضة وعودها بالتشغيل ورفع الأجور؟، بغير اللجوء الى التمويل الأمريكي أو”الإعتماد على الأموال الخليجية، وهو الأمر ذاته الذى تكرر فى تجربة مشروع النضهة المصرى على الطريقة الإخوانية، وتواصل بشكل أو بآخر مع الحكومة اللاحقة.
فإصطدمت تلك الحكومات بحجم التحديات الإجتماعية والاقتصادية التي كانت السبب الرئيسي في إندلاع الثورة كإرتفاع معدلات البطالة، والتفاوت الفج فى توزيع التنمية بصورة جغرافية عادلة٬ والتهريب والفساد، والتي لا يزال أغلبها بدون حل(..) ويمكن أن تؤدي إلى تأجج الأحداث من جديد.
فمثلا بحسب إحصائيات رسمية إرتفعت نسب البطالة في تونس عام الثورة 2011 إلى نحو 19% مقابل حوالي 14% سنة 2010 وبلغ عدد العاطلين في البلاد خلال 2011 حوالي 750 ألفا بينهم نحو 250 ألفا من خريجي الجامعات ومؤسسات التعليم العالي. وبلغت نسبة الفقراء نحو 25% من إجمالي سكان البلاد التي يقطنها أكثر من 10 ملايين نسمة، فيما تجاوزت ذات النسبة فى مصر 40% فى بلد قارب تعداد سكانه 90 مليون نسمة ويشكل الشباب شريحته العمرية الأكبر. وبات التونسيون(25)، ومن بعدهم المصريون، على قناعة بأن العلاقة بين التوجه الإنتقالى للحكومات محكوم عليه بعدد من المدركات الخفية التى تحد من رغبة وقدرة تلك الحكومات على تحقيق الأهداف الثورية، حتى وإن توافر ببعضها حسن النية وحاول البعض الآخر أن يواكب الحدث لينجوا قدر المستطاع بمركب الوطن البالى من الغرق، فآثر السلامة ولم يجازف الإبحار عكس أمواج المصالح والتربيطات العاتية.
د ـ الإشكاليات السياسية:
جراء ذلك الواقع المعقد المتشابك للبيئتين التونسية والمصرية والذى شكلت خلفياته السياسية أمور عدة ما قبل الحدث الثورى، وراكمت على ذلك الواقع مجموعة الإشكاليات سابقة الطرح، ما إنعكس حتماً على مسار البناء السياسى خلال موجات المرحلة الإنتقالية، بل لم تدار تلك المرحلة سياسياً خارج تجاذبات ذلك الواقع المعقد بإشكالياته الضاغطة.
فمثلاً إقتضى التوافق الإخوانى فى بادىء الأمر مع المجلس العسكرى فى مصر أن ينفرد الأخر بوضع إعلان دستورى لتنظيم المرحلة وبموجبه يعاد بناء المؤسسات ويعاد كتابة دستور جديد مرة أخرى، وقبِل الجانبان ذلك رغم ما بينهما من خلافات فكرية وسياسية جزرية، وجاء الإخوان فى صف الجيش ودعموا موقفه ضد باقى القوى المدنية، لينتهى الأمر بما سمى “غزوة الصندوق”، التى جددت الشرعية الدستورية للمجلس العسكرى لإدارة المرحلة لحين إنتخاب المؤسسات الدستورية، وحين تعارض ذلك مع مصلحة “الإخوان”، أقاموأ الدنيا ولم يجلسوها على رأس المجلس العسكرى تحت دعوى إطالته الفترة الإنتقالية، وكان السبب الغير معلن هو رفض الجيش لإستئثارهم بالحياة السياسية(26).
أيضاً شهدت الساحة التونسية إنقساماً سياسياً حاداً بعد مرور سنة على إنتخاب المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر 2011، لاسيما بين ما هو علماني وإسلامي، وبين ما هو موال للترويكا الحاكمة، ومعارض لها يصر على أن المجلس التأسيسي بات فاقداً للشرعية. وفي ظل البحث عن شرعية توافقية، وبلورة “خريطة الطريق” للمرحلة الانتقالية كما تطالب بذلك المعارضة الديمقراطية، تصاعدت وتيرة العنف السياسي في المجتمع التونسي، وتراجعت حالة حقوق الإنسان على يد الحكومة التونسية، وتصاعد التشكيك في مدى إلتزامها بالإصلاح الديمقراطي المطلوب، إضافة إلى التهديد المتصاعد الذي مارسته الجماعات السلفية المتشددة، لاسيما من قبل جماعة “أنصار الشريعة”، المقربة من “القاعدة”، التي هاجمت حكومة النهضة الإسلامية، متهمة إياها بالأثيرة للتبعية الغربية(27).
وهو الأمر الذى حصل شبيهه فى القاهرة، فمع مجىء “الإخوان المسلمين” الى السلطة ورحيل المجلس العسكرى، سعوا جاهدين الى إحكام السيطرة على مؤسسات الدولة بصورة منفردة، وتصادموا مع القضاء والمحكمة الدستورية، وحُسم فك إرتباطهم بالقوى المدنية، لتشكل مجموعه من الأحزاب والشخصيات السياسية ما سمى بـ”جبهة الإنقاذ” تركز دورها فى الوصول ما أمكن الى صورة مناسبة لإدارة التوافقات مع “الإخوان” لكن دون جدوى، بل تزايد التباعد بين الشباب فى الشارع وبين السلطة الحاكمة، لينتهى الأمر بهم سريعاً كذلك لتكوين ما سمى “حركة تمرد”، التى تقاربت مع كل من إختلف مع “الإخوان”، وتحرك الجميع الى حسم الأمر بالشارع مرة أخرى تحت دعوى عارمة لإخراج الرئيس”محمد مرسى” من السلطة، وذلك بعد إستحكام الخلاف مع الجماعة وتيقن الجميع من عدم جدوى السعى لإدارة التوافقات معها بصورة أو بأخرى(28).
ومع رحيل حكم “الإخوان” فى مصر وتراجع صدارة “حركة النهضة” للمشهد التونسى، تأثرت قوة النظامين فى تونس ومصر بديناميكيات النظام السياسي نفسه، وبقدرة النظام على تكوين طبقة سياسية يمكنها أن تلعب دور الوسيط بين الرئيس الجديد المدعوم من الجيش وبقية المجتمع، وتَطلّب الإستقرار السياسي ماهو أكثر بكثير من إرتفاع معدّلات النمو والإستثمار في المدى القريب، الى ضرورة السعى الجاد لإحتواء حالة الخصام المتصاعد بين مكونات المجتمع المختلفة، كما تطلب الأمر ضرورات السعى الجاد لخروج كلا النظامين من حالة الإرتهان الى الماضى، وتباعدهما عن التواصل مع السواد الأعظم من الفئة الشبابية(29).
وهو ما تطلب وضع رؤية للخروج من تلك العلاقة المأزومة بين الحاكم والمحكوم، بين المواطن والدولة، وكيف يمكن الإنتقال من ثقافة التسلط والوصاية والإستبعاد وممارساته المتجذرة في الثقافة السياسية والإجتماعية؛ إلى ثقافة الحرية والمواطنة والولاية على الذات والإستيعاب والإنفتاح على الآخر وإحترام آراءه المختلفه؟.
المحور الثالث:
قراءة فى تحديات الفترة الإنتقالية وإعادة البناء المرحلى
للثورات تضحيات كبيرة يجب أن تقدَّم، وفواتير متعددة يجب أن تُدفع، ومشكلات عديدة على الشعوب التي ثارت أن تتحملها، ولو تعجّل الناس تحقيق أهداف ثوراتهم دون تحمل هذه التضحيات فلن يتمكنوا من هدم الفساد والظلم وإقامة العدل وترسيخ الحرية، وحتى اللحظة الراهنة وبالرغم من الإهتزازات التي عيشتها الفترة الإنتقالية كمقدمة لإنطلاق المسار الديمقراطي فعلياً فى تونس ومصر, فقد عجز أغلب المشاركين في صناعة القرار عن بلورة أجندات واضحة تسهل الولوج الفعلى الى ذلك الإنتقال الديمقراطي.
وذلك ربما لعجزهم أو رفضهم التعاطي بشكل جاد مع ما تراكم من مشاكل وأزمات سياسية وإجتماعية وإقتصادية وثقافية فى سنين الإستبداد السابقة، أو لسوء فهم وتقدير الأطراف الفاعلة في الشأن السياسي للمرحلة, بحيث تناسوا أو جهلوا أن الإنتقال يعني البناء المشترك من أجل تحقيق التغيير الشامل والنهائي من ممارسات الفساد والإستبداد إلى مسار ديمقراطي يكرس لثقافة المواطنة والمشاركة في إتخاذ القرار بمستوياته المختلفة، وعليه فربما أدار من تحملوا مسؤولية المرحلة الواقع جهد ما إستطاعوا، لكن هذا لا ينفى أن الجميع إقترف عدد من الأخطاء، وذلك بحكم فجائية الحدث الذى وجدوا أنفسهم فيه على عجل فلم يدركوا جميعاً خطورة اللحظة كما ينبغى فأداروها قدر طموحاتهم وتطلعاتهم.
لكن من المتعارف عليه أن يتخلل الفترات الإنتقالية منازعات وخلافات بين أطراف عدة، ولا يتوفر الأمن بشكل كامل، حيث لا تعمل الأجهزة المنوطة بضبطه كما لا تعمل باقي مؤسسات الدولة بأفضل قدراتها، وقد مرت تونس ومصر فى تلك الفترة الإنتقالية، وما زالتا، بسلبيات وتحديات عدة، جعلت من التذبذب والإحتقان الذى تعرضت له الساحتين السياسية والإجتماعية أكبر التحديات التي تواجه الحكومات والشعوب معاً، فبعض هذه التحديات شكل عائقاً فى الماضى وبعضها لازالت حتى اليوم تأثيراته ممتده(30).
من أبرزها الإختلال الكبير بين التوقعات الاقتصادية والإجتماعية وضيق الأفق الزمني لعمل بعض الحكومات، وكذا محدودية الموارد المتاحة وإرتباط زيادتها بعدد من التبعات، والتي مثلت معضلة أساسية واجهت الحكومات الإنتقالية، يمكن إستعراض بعضاً منها، كما يلى:
1ـ إنتقال حالة اللايقين الى إستقطاب متزايد داخل المجتمع:
من خلال تصاعد الإحتقان الإجتماعى وحيرة الشارع بين العودة الى النظام القديم أو القبول بصعود القوى الإسلامية، وما بين مجموعة سياسية تتصدر المشهد وتسعى جاهدة لإيجاد موطىء قدم تضمن من خلاله حماية مصالحها الآيلة للسقوط ما بعد الثورة، وفئة أخرى أكثر تنظيماً تترصد منذ مدة لحظة إخلاء المجال العام من الأنظمة البائدة، حتى تتصدر المشهد وتمرر من خلاله مشروعاتها الحالمة.
إحتار الجميع ووقع الناخب أثيراً لهوى المشروع الإسلامى المقدم من قوى الإسلام السياسى، وهو ما أدى الى تزوير الوعى الإنتخابى خارج الصندوق وأفرغ ما وصل اليه من أصوات من مضمونها، وأنتج هيئات ومؤسسات منتخبة بنسب أصوات عالية، لكنها سرعان ما تصادمت مع رغبات وميول من أتوا بها، ففي تونس إتجهت التناقضات الكبري بين القوى الفاعلة ما بعد الثورة إلى صراع سياسي إجتماعي فئوي وفكرى، وذلك بسبب الصراع حول توجهات الدولة في مسار الحريات بين علمانية الدولة أو إسلاميتها؛ خاصة الصراع حول ما حققه المجتمع التونسي قبل الثورة، وما تطرحه التيارات الدينية من مفاهيم حول قضية الشريعة والحاكمية، وقد قادت هذه المسارات إلى إغتيالات سياسية بارزة هزت تونس وأعادة التفكير فى الثورة نفسها وهو ما جعلها تعدل المسار لتقع فى شراك من تبقى من الأنظمة السابقة(31).
وفي مصر مثل الإختلاف الطائفي والمذهبي أحد التحديات في تأسيس الدولة المدنية، فالطائفية والتحريض الطائفي صارا معضلة جاوزت الخطاب السياسي للسلطة إلى النسيج الإجتماعي، وبرز في مصر لفترة تناقض مذهبي (سنة شيعة) (مسلم مسيحي)(32)، فتجاوز الواقع مبدأ الإختلاف ودفع الجميع إلى إعادة النظر في مجمل ما أفرزته الثورة المصرية؛ كما دفعت التناقضات المعيقة لإعادة بناء الدولة جموع المصريين إلى النزول للشارع مرة أخرى وتصحيح مسار الثورة، ليصتدم من أتى مجدداً بواقع شائك مرتبك يكسوه عنف من رحلوا أنفاً.
2ـ حدود وتبعات القبول الشعبى والدولى:
حدثت الثورات في منطقة تشكل موضوع صراع وساحة توترات داخلية وخارجية، فعلى الصعيد الداخلي واجهة الحكومات مسألة الإنتقال من الحالة الثورية إلى الحالة المدنية، بكل تبعاتها السياسية والأمنية والقانونية، وهو ما شكل عقبة كئود أمام قدرتها على بسط الأمن والسيطرة عبر إعلاء سيادة القانون وإحتكام المواطنين الى مؤسساتها، وعلى الصعيد الخارجي شكل الموقف من عملية السلام والعلاقة مع إسرائيل وأمريكا وإيران والأوضاع الشائكة فى ليبيا والجزائر والسودان ومالى تحديات عدة واجهة تلك الحكومات في إتخاذ مواقف داخلية أو خارجية أكثر إستقلالية ونفاذية، أو خيارات سياسية إقتصادية تنسجم مع أهداف الثورة وتطلعات الجماهير التي فجرت أحداثها(33).
وكانت أصعب المعضلات التي واجهة المرحلة؛ تبدل السياقات المسؤولة والحاكمة خلال موجات الإنتقال المختلفة، فمن سيطرة أولى شبه مؤقته على يد المجلس التأسيسى فى تونس والمجلس الأعلى للقوات المسلحة فى مصر، والتى كان لها تبعاتها فى الداخل والخارج من حيث التباين فى القبول الشعبى والإقليمى والدولى، الى إختيار كيانات منتخبة سيطر عليها الإسلام السياسى بقيادة حركة النهضة الإسلامية فى تونس وجماعة الإخوان المسلمين فى مصر فأحدثت نوع من النشوة لدى مؤيديها فى الداخل والخارج كما أحدثت بذات القدر رجفة مزلزلة لدى معارضيها فى الناحية الأخرى ما دفعها لفرض حالة من العراقيل المتبادلة، الى موجة تصحيحية أخرى لمسار الثورة أزاحت الإخوان المسلمين من السلطة فى مصر وأعادت بهم الى سابق العهد أيضاً مع الأنظمة السابقة، وأتت بقيادة ذات خلفية عسكرية رغبها الشارع بصورة جامعه، لكنها وقعت فى شراك الصدام والعزالة من عدة أطراف فاعلة، كما أناخت فى تونس حركة النهضة بعض الشىء جانباً وأتت بقيادة ليبرالية محسوبة على الأنظمة السابقة.
وبالإضافة الى ماسبق توجد تيارات سياسية وآيديولوجية أخرى، سواء أكانت قومية أو ليبرالية علمانية أو يسارية، كما ظهرت قوى جديدة خرجت من صلب أزمنة ما بعد الحداثة التي تعتمد القوى الناعمة المتمثلة في تكنولوجيا الإتصالات المتجاوزة لحدود الزمان والمكان؛ هى فئة الشباب الذي ينتمي إلى زمن مجتمع المعرفة، فعبر الرسائل SMS وشبكة التواصل الإجتماعي، كان لها الدور الأساسى في وضع ثورات الربيع العربي داخل مسارات الحدث العالمي(34).
إذاً لم يكن المسؤولين عن إدارة المرحلة كياناً متجانساً؛ بل تواتر عليها قوى فاعلة تعصف بها التناقضات التي يصعب تجاوزها؛ وهي تيارات لم يتوافق بعضها مع تيارات الإسلام السياسي على طول مسار تأسيس الدولة، بل أخذ الصراع بين الإتجاهين طابعا دمويا في بعض جولاته، فخلف مرارات تجاوزت مبدأ الإختلاف إلى المؤامرات والكيد، وهو ما مثل أزمة متناقضة أعاقت بلورة مسارات سياسية متجانسة تعمل على رسم سياسات عامة تضمن تحقيق التبادل السلمي أولاً للسلطة؛ كما تضمن ثانيا الوفاق حول برامج ما بعد الثورة(35).
3ـ تباين الأولويات بين الشارع والنخبة:
إفتقد جميع من أدارو الأمور خلال مرحلة الإنتقال، بوصلة التواصل مع الشارع والشباب بصورة ناجعة، نظراً لتكلس النخبة وغياب القيادة والشخصية النموذج والكاريزما، ونظراً لتصاعد نبرة التشويه والتخوين وإستفحال رغبة الكل فى جلد الذوات الأخرى، فظهر عجز وإنفصال النخبة عن إحتواء الشارع وتقويم عنفوانه الثورى، ما أدى بالجموع الثائرة الى إعادة التقوقع فكرياً داخل تنظيماتها التقليدية، كما أدى الى عودة الإعتماد على القبلية والعصبية والجهوية فى البحث عن الذات وتلبية رغباتها الجانحة، وهو ما أفضى الى تصاعد حالة (العنف البينمجتمعى)، وأوقع الجميع فى شراك التعبير المتطرف عن المتطلبات الأساسية، وإرتفع سقف التوقعات الثورية أمام محدودية تحرك الحكومات المتعاقبة فى الإستجابة لها، لتنحرف بعض المطالب وتتحول الى حالة من التمرد والعصيان الفئوى.
وذلك ربما ما أدى الى تخبط كل الأطراف وفى القلب منها فئة النخبة وأفقدها القدرة على وضع رؤى واضحة ومتكاملة لإدارة المرحلة الإنتقالية، تعلى من قيمة إدارة الإختلاف بين شقائق المجتمع المتنوعه، وتنقل الجميع من محدودية التحرك المصلحى لإعادة بناء الدولة الى براح التوافق كأولوية لبناء الأمة، من خلال إعادة هيكلة وترتيب ميكانزمات الإستيعاب والإندماج الكمى والنوعى لقوى المجتمع المختلفة(36).
لكن ذلك لم يحدث، بل إنتشر العنف الأيدولوجى، وتبدلت حالة التمرد لدى أطياف المعارضة المختلفة خلال موجات المرحلة، وإنتقلت من مجرد الخلاف السياسى الى الوقوع فى شراك التخوين والإقصاء، ما أدى الى خلق تعددية فسيفسائية متناحرة، لم تستطيع حسم الأمر كما ينبغى. وكان أبلغ تعبير عن ذلك، إفتقاد الرغبة أو القدرة على مراجعة التشريعات واللوائح القائمة، وإضطرار السلطات المتعاقبة الى التعامل مع الواقع من خلال منظومة البيروقراطية والفساد المقنن، وتميع رغبتها فى تفعيل مشروع جاد للعدالة الإنتقالية، وإستفحال حالة القصور التشريعى واللجوء الى قوانين مفصلة لمواجهة أشخاص بعينها(37)(38)(39)(40).
4ـ التحدي الاقتصادي:
لعب العامل الاقتصاديّ دورا مهمًّا في الثّورة، وكان من أبرز التّحدّيات التي واجهت المسؤولين عن إدارة المرحلة الإنتقالية فى تونس ومصر، فبالإضافة الى ما تركته الأنظمة السابقة من سلبيات لعل أبرزها الفساد المستشرى فى كل القطاعات، وما نجم عنه من ترهل مزمن في إدارة شؤون المجتمع والدولة، وإختلال برامج التنمية بين المدن الكبرى والمناطق الريفية كـ: سيدي بوزيد، وجفصة، والقصرين فى تونس، والنوبة والصعيد وسيناء والصحراء الغربية فى مصر، ومن الإنتفاضات السّابقة كإنتفاضة الخبز عام (1984) وإنتفاضة الحوض المنجميّ عام (2008) وإنتفاضة الرديّف (2010) فى تونس، الى إنتفاضة عمال عزل المحلة وإحتجاجات نقابة الصحفيين المتتالية فى مصر، الى تصاعد واستمرار الإحتجاجات والمطالب الفئوية المختلفة ما بعد الثورة، الى توقف المصانع وتضرر حركة التجارة الخارجية وإنهيار شبه كلى للقطاع السياحى، وسط محدودية المناورة للإعمتاد على الإحتياطى النقدى، فى ظل إنتشار حالة من الفزع لدى المستثمر الأجنبى، وتصاعد حالة ثورية تطالب بسرعة الإجهاز على رؤس فساد رجالات “زين العابدين” و”مبارك” سواء الموجودة فى الداخل أو المهربة فى البنوك الخارجية(41).
وضع كل ذلك وغيره الحكومات الإنتقالية فى حالة من الإنكشاف والضعف أمام الداخل بمطالبه الثورية المتصاعدة وحقوقه المسلوبه والمستحقة، وأمام الخارج بكل ضغوطاته وإملائته المتنوعه سياسياً وإقتصادياً وأمنياً، بصورة عالية التكلفة، ألجمت جميعها متخذى القرار عن المناورة وجعلته عاجزاً عن مسايرة الداخل بمطلباته الثورية ومواجهة الخارج بأجنداته الفوقية، مما أدى إلى دفع الوزراء للتركيز على إدارة الشئون اليومية، وتجنب تقديم أي التزامات يترتب عليها آثار تتجاوز الفترة الانتقالية.
لكن على الرغم من هذه الاضطرابات الداخلية، وضغوط الأحداث الخارجية من جوار إقليمي متوتر، وإرتفاع أسعار الوقود والمواد الغذائية في الأسواق العالمية، إستطاعت الحكومة الإنتقالية فى تونس ومصر منع الاقتصاد الوطنى من الإنهيار، والحفاظ على مستوى لائق من إحتياطيات النقد الأجنبي.
المحور الرابع:
الدروس المستفادة من تجربتى تونس ومصر فى إعادة البناء والتحول
1ـ نتائج التجربة:
ربما تتجه كل المنطقة العربية ما بعد ثورات الربيع العربى، نحو الخروج من نظام معقد ذي
أشكال متنوعة من التسلط الذي حكم الشعوب لعقود ممتدة، لتدخل في مرحلة إنتقالية طويلة لكنها مليئة بالصراعات، ستسعى الشعوب خلالها إلى تلمّس خطى الديمقراطية مرحلياً بنسب، وفى القلب من ذلك ستستفيد تونس ومصر، من قدرتهما على إدارة تبعات مرحلة الإنهيار الأول لسلطات الإستبداد بصورة حافظت على عدم إنحدار كلاهما الى الصراع المسلح كما حدث فى بعض الدول، وهو ما سيمهد لهما سريعاً الطريق لتعزيز المسار الديمقراطى مستقبلاً، إذا ما واصلا السعى الجاد نحو تعزيز التجربة بتلافى سلبيات المرحلة الإنتقالية السابقة، وذلك حتى لا ينزلقا الى الوقوع فى الأخطاء مرة أخرى.
حيث يمكن إرجاع السبب الأول لإنحراف مسار الثورات العربية، وصعوبة الإنتقال نحو الديموقراطية، فى ظل سياق إتسم بالعنف والتأزم على كافة المستويات الفكرية والساسية والاقتصادية والإجتماعية، الى”غياب الواقعية العقلانية لدى الجميع”؛ إذ إعتقد الحاكمون الجدد حتمية إرتكاز إعادة بناء الدولة ما بعد الثورة وما بعد رحيل الطغاة على “المحاصصة” السياسية، والتى سُيرت من قبلهم بمنطق الغنيمة والفرصة والولاء لمن حازوا الشرعية ومثلوا الأغلبية، فظل الخلاف السياسى اليومى فى تونس ومصر قائماً على التشكيك فى صدق النوايا والتراشق بالتهم والتقليل من قيمة الآخر والسخرية منه والرغبة الملحة فى إستبعاده ما أمكن، وكأن مسار الثورة يقتضى الإقصاء، ولم يفطن المسؤولون عن إدارة المرحلة الى خطورة التنكر لوعود قطعوها حين صرحوا أنهم سيسعون جاهدين الى تحقيق العدالة الإجتماعية ومن ثم إرساء الدولة المدنية أو دولة المواطنة، فبمرور الشهور، تأكد أن الذين أدروا هذه المرحلة فهموا الديموقراطية خطأً على أنها إجراء وأداة للوصول فقط الى السلطة، وليست ممارسة ممتدة مبنية على تربية حقوقية ومنظومة قيمية وإستعدادً جماعياً لتجسيدها على أرض الواقع وإلتزام كلى بدعم وتعزيز بنيان مؤسساتها الناشئة(42).
لكن أما وقد وصل مسار حب الذات منتهاه الى الفشل؛ على الجميع أن يدرك اليوم قبل غداً، أن الشعبين التونسى والمصرى الذين أنجزا ثورتيهما وأسقطا الديكتاتوريات السابقة، لن يقبلا مجدداً إستبدال ديكتاتورية بأخرى، حتى وإن بدا المشهد ملبداً ببعض الشواهد السالبة، وسيبقى الثابت أن الشعوب دائماً ما تنتصر كما حتماً وإن طال المدى ستنجز رغباتها.
فلذا وبرغم حدة الصراع الإنتقالى الذي شهدته تونس ومصر، يجب إعادة البحث عن مساحات مشتركة من خلال إعادة الصراع الى طبيعته وتحويله من صراع سياسى ـ إيدولوجي مئزوم، الى تنافس سياسي على خدمة الناس وكيفية الوصول الى أفضل نموذج للحكم وإدارة الوطن، وهو ما يتطلب تقيم الوضع الحالى، والتركيز على تثبيت المؤسسات الديمقراطية الناشئة ووضع الشروط المناسبة الجامعة لذلك بعيداً عما يخالف الإنتماء الوطنى من مصالح زائفة.
2ـ رؤية مقترحة لتعزيز المسار المستقبلى:
مع الإقرار بأن ما تعيشه تونس ومصر ليس إلا مجرد الإرهاصات الأولى لمرحلة الإنتقال نحو الديموقرطية، ومع الإقرار بإضطرار السلطات الإنتقالية المسؤولة عن إدارة المرحلة الى إقتراف أخطاء بحكم ضبابية المشهد والسيولة الشديدة للواقع السياسى والأمنى ما بعد إنهيار الأنظمة الديكتاتورية، على الجميع أن يضع نفسه موضع المسؤولية ويدرك محدودية وخطورة المناورة، بين العودة الى الماضي وإستعادة أجواء الصراع الفكري والسياسي والأمني وصولاً لقيام كل فريق بعزل الآخر وإستئصاله كما حصل سابقاً، أو الجلوس الى طاولة الحوار والبحث عن النقاط المشتركة وإبقاء الصراع في الأطر الفكرية والديمقراطية، تمهيداً لخلق حالة من الإستعداد الجماعى لإعادة بناء التوافق السياسى والمجتمعى والتى تتطلب عدد من التحركات، منها:
أ) العدالة الانتقالية:
يتطلب الظرف الحالى، حتميتة قيام السلطة الحالية فى تونس ومصر بتفيذ برنامج صادق وفاعل للعدالة الإنتقالية، بصورة تعيد مراجعة كل ما إقترف من تجاوزات وأخطاء خلال المرحلة الإنتقالية كما تشمل ما إرتكبه النظام السابق من تجاوزات سياسية وأمنية وإقتصادية فى حق المجتمع، والتى لا تسقط حقوق أصحابها بالتقادم، وذلك عبر برنامج قوى وملزم للجميع بأطر وآليات دستورية وقانونية واضحة وناجزة تستفيد من التجارب الأخرى المماثلة تاريخياً كما حدث فى المغرب وجنوب أفريقيا وغيرها(43)، كما تسعى جاهدة لإعادة الحقوق الى أصحابها ما أمكن وفق مقتضيات اللحظة الحالية، لتضع الجميع أمام مسؤولياته التاريخية، وذلك كخطوة أولى يدخل بها الجميع إذا ما رغب الى المرحلة التالية من تعزيز المؤسسات وتفعيل الثقافة الديموقراطية وبناء الثقة المتبادلة ووضع كل طرف أمام حتمية القبول بوجهات النظر الأخرى المختلفة وعدم المصادرة عليها تمهيداً لتعزيز ثقافة الانتقال السلمى للسلطة، كما ينهى حالة الإلتباس والرفض لدى من يشككون فى مدى إمكانية نجاح التجربة، ويوقف بعض الدعاوى التى تحاول الإنقلاب على الواقع الحالى لتعيد تدوير المشهد مرة أخرى لصالحها، وهو الأمر شديد الخطورة، حيث لن تستطيع المجتمعات تحمل تبعات الإنهيار وتغير المسار مرة أخرى.
وإنما على الجميع إعادة قراءة المشهد الحالى بتبعاته الداخلية والإقليمية والدولية والتحلى بشجاعة الإعتراف بالأخطاء والإستعداد لتحمل تبعاتها، تمهيداً للوصول الى حالة من الصفاء النفسى تستبع حتمية الإقرار بضرورة الحوار، وخير مثال على ذلك على الجميع الإستفادة مما وصلت اليه تجربة الرباعي التنونسى الراعي للحوار، المكون من أربع منظمات مجتمع مدني، كتجربة مميزة فى إدارة التوافق، والتى جلبت الى القائمين عليها صك الإعتراف الدولى بتميزها بل مُنح القائمين عليها جائزة نوبل للسلام تقديراً لجهودههم(44).
ب) إرساء ثقافة إحترام القانون:
إذا كان من الضرورة الحتمية وضع تصور لتطبيق برنامج فاعل للعدالة الإنتقالية وفق ما تلا عرضه أنفاً، فهذا لن يحدث إلا فى ظل مجموعة من الأطر المتعددة يأتى على رأسها شكل وطبيعة الإطار الدستورى والقانونى الناظم للعلاقة بين السلطة والمجتمع والذى يضمن للجميع حقوقه بالتساوى دون محابه لأحد ودون مواربة قانونية تستهدف إعلاء فئة على فئة أو يطبق على مجموعة ولا يطبق على أخرى، وهو ما يتطلب من الجميع حكاماً قبل محكومون أن يضعوا نصب أعينهم حتميات إعلاء سيادة القانون على الجميع فيبدئوا بتطبيقه أولاً على أنفسهم، لا أن يستغلوا سلطاتهم فى تطويعه لصالحهم، ولذا لم يعد من المقبول مستقبلاً من يقوم بمفاضلة قانونية وستورية وفق أهواء وميول سياسية بعينها، وخير مثال مرفوض على ذلك ما أبداه أحد نواب المؤسسة التشريعية الوليدة فى مصر قبل أيام حين أجهر مفاخراً بعدم إعترافه بأن ما حدث فى 25 يناير 2011 ثورة(45).
وذلك كخطوة أولى لبناء الثقة بين الحاكم والمحكوم تستبع بالضرورة أن يلتزم الموطنون كذلك بإعلاء قدسية النص القانونى كضامن وحامى أول يصون حقوقهم، كما ترسى بذلك السلطة حالة من الثقة والإستقرار النفسى لدى الجميع فى قدرة القانون على تنظيم التفاعلات المجتمعية بما لا يضر بالمصالح والمكتسبات الشرعية للجيمع.
حينها وفقط سيلتزمون بتطبيق القانون فى معمالتهم اليومية كإجراء وسلوك فاضل، يضمن ويحمى السلامة المجتمعية، وبهذا ينتقل المجتمع من حالة الإلتزام الجبرى المكروه فى تطبيق القانون الى مرحلة القبول الطوعى لإعلائه وتعزيزه، ليرسى بذلك الجميع ثقافة إحترام القانون وليتجاوز المجتمع التبعات السلبية لواقع سيطرة قانون الغاب ما بعد الثورة والتى لجأ فيها الجميع لحماية حقوقه بالإعتماد على القوة والقبلية والعصبية، تمهيداً لعودة الثقة بين الجميع مرة أخرى كخطوة ضرورية لإعادة البناء وتعزيز المسار الديموقراطى فى المراحل المقبلة.
ج) المراجعة الثقافية والفكرية:
أما وأن الواقع الحالى فى تونس ومصر قد تجاوز الحالة الطاغية للتناطح الفكرى بين المكونات المختلفة، فلا مناص أمام الجميع من إعلاء قيمة الوطن والمواطنة والتحلى بالشجاعة وإعادة النظر فى معتقداته الفكرية والأيدولوجية بإختلاف مشاربها، والتى لا تراعى فى بعضها الإختلافات الفكرية الأخرى بل منها ما يصادر على براح الواقع المتنوع للمجتمعين التونسى والمصرى، ساعياً بما يمتلك من أدوات العنف الفكرى والمادى الى فرض أجنداته الفكرية على غيره من تكوينات المجتمع الأخرى.
لذا على الدولة كسلطة أن تسعى بشكل جاد، الى وضع تصور وإجتهاد ثقافى وفكرى جديد يجمع تحت ظلاله التنوعات الفكرية المختلفة على توافقات ومشتركات عديدة لكن لا يوجد حتى الآن مشروع جامع واعى يوحدها، وهو ما يتطلب أولاً إعادة قراءة الواقع الثقافى والفكرى للمجتمعين التونسى والمصرى، والذى شابه العديد من الإختلالات البنيوية والسياسية والتربوية والدينية والإجتماعية بل شابه الإنحدار على مستوى التعامل المنفرد، وذلك بحكم إستمرار حالة الإنفلات الإعلامى والمعلوماتى الغير منضبط، والذى وصل بالمجتمعات الى حالة من الإزدراء والإحتقار المعلن لواقعها حيث يعانى الجميع من تبعاته المتدة.
فربما يتطلب ذلك من قبل السلطة التشريعية إعادة وضع أطر قانونية ومواثيق شرف أخلاقية جديده لتنظيم المحتوى الإعلامى والمعلوماتى الحالى بتوعاته المختلفة، لكن لا تصادر على الحريات، كما لا تغفل خطورة الإنفلات الأخلاقى والمهنى والفكرى لعدد من المنصات الإعلامية المختلفة.
أيضاً على الجميع سواء فرد أو أسرة أو مجتمع إعادة التموضع الثقافى والفكرى داخل الأطر والكليات العربية الأصيلة بتنوعاتها المختلفة التى لا تجهل المشارب الخلقية السمحة، كما لا تجهل الخصوصيات التنوعية للمكونات التعددية المختلفة، وذلك تمهيداً لأعادة الجمع بينهما فى سياق فكرى وثقافى جديد يعلى من الإعتزاز بذواته المتنوعة لكن لا يجهل حتميات الإرتقاء الجمعى بثقافة إحترام الآخر باختلافاته كما ترتقى بقيم الحوار والمشاركة والحرية والعدل والمواطنة كمتطلبات أولية للمارسة وترسيخ الممارسة الديموقراطية قولاً وعملاً(46).
د) فك الإرتباط مع الخارج:
لا يخفى على الجميع ما تعرضت له المجتمعات العربية ما قبل الثورة وما بعدها من مكائد ومساومات وإستهدافات دولية وإقليمية لازالت تعانى الشعوب من تبعاتها حتى اليوم كما ستظل تبعاتها وتكتيكاتها فى المستقبل ممتدة، وهو ما يتطلب من الجميع إعادة قراءة المشهد الحالى تمهيداً لتصور موقعها على خريطته مستقبلاً، ليضع الحاكمون لبلادهم إستراتيجية وطنية يستطيعوا من خلالها التحرر من تبعات الإرتهان للخارج بعد مدة، إستراتيجية تعلى من قيمة الوطن فتسعى للحفاظ على وحدته الجغرافية والمجتمعيه من التفتت والإنجراف فى تيار الإنهيار الحتمى للمجتمعات الغافلة، كما تسعى جاهدةً للتخلص من الإنسياق الأعمى لتنفيذ مخططات ومسارات تدميرية للمنطقة العربية، فتتحرر وطنياً من التبعية للقوى الإقليمية والدولية.
كما على المكونات المجتمعيه بتنوعاتها السياسية والفكرية وعلى إختلاف تكويناتها الطبقية والنوعية، أن تدرك خطورة الإنسياق ـ فى سبيل تحقيق الذات ـ وراء مخططات تستغل شعارات وقيم بعينها على غير مقاصدها حسنة النية لأهداف أخرى تدميرية، فيقع من ينقاد منها فى خطأ ترويج معتقدات دخيلة على المجتمعات العربية، بغية ضرب الثوابت الفكرية والوطنية والدينية والتى تعد كوداً أصيلاً للشخصية العربية، فتروج الأفكار الدينية والمذهبية المغلوطة أو الأفكار الإجتماعية المرفوضة كالمثلية الجنسية وغيرها، أو تردد أفكار تطبيعية مع الكيان الاسرائيلى تحت مسميات ليبرالية وإقتصادية معينة يتخلص من خلالها الكيان مستقبلاً من واقع العداوة الأزلية مع المنقطة العربية، أو تروج أفكار عسكرية تنافى حتمية الإستعداد المتواصل بجيوش نظامية قوية لمواجهة التهديدات المتنوعة، كقبول تواجد قواعد عسكرية لقوى بعينها على أرض الوطن، أو دعاوى إلغاء التجنيد الإجبارى مثلاً تحت زريعة الإنتصار لفكرة إنعدام الضرورة وكنوع من الحرية الشخصية(47).
وفى الختام على النخبة السياسية والفكرية فى تونس ومصر بل والنخبة العربية تدارك حقيقة حتمية لا مناص من إعادة قراءة الواقع العربى بدونها، فحواها ” حتمية التخلص من عقدة الخواجة”، وأن “إعادة بناء وتطوير المجتمعات العربية لن يكون إلا بمشاريع عربية خالصة لا تنقاد أو تأخذ من الفكر الغربى سوى ما يتفق مع طبيعة تكويانتها الفكرية والتاريخية”، إذ ليس كل ما يصاغ فى الغرب يصل للتطبيق فى تونس والقاهرة، كما على المكونات السياسية المختلفة أن تدرك خطورة اللجوء الى الخارج والإستقواء به على شركاء الداخل فى الوصول الى السلطة، أو الإرتهان له فكرياً وتنظيمياً تحت أى مسميات تنافى الوحدة الوطنية والطبيعة المجتمعية لأوطانها.
المصدر: “مركز البديل للتخطيط والدراسات الاستراتيجية”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) د.عبدالعليم محمد إسماعيل علي، “ثورات الربيع العربي وتحديات الواقع”، صحيفة الراكوبة (السودان)، بتاريخ 9/7/2013.
الرابط: (www.alrakoba.net/news-action-show-id-114641.htm).
(2) د. سعد علي حسين التميمي، مع د. عادل ياسر ناصر، “التحولات السياسية في العالم العرب وتحديات الاستقرار الداخلي”، مؤتمر التحولات والتغيرات في الوطن العربي: الفرص والتحديات في ظل الربيع العربي، الجمعية الأردنية للعلوم السياسية، جامعة العلوم التطبيقية، عمان، بتاريخ 10-11/6/2013،ص15:18،الرابط:.(Psajo.com/Uploads/2014/6/44/121.docx)
(3) CNNArabic.com، “المبزع يؤدي اليمين رئيساً مؤقتاً لتونس“، 14/2/2011، الرابط:
(Arabic.cnn.com/2011/middle_east/1/15/tunisia.binali/).
(4) يحى أبو ذكريا، “الحركة الاسلامية فى تونس من الثعالبى والى الغنوشى”،( تونس: ناشرى نت، 7/2003)، ص 40:45.
الرابط: (nashiri.net)
(5) صافيناز محمد أحمد، “عام من الثورة التونسية: المسار والتحديات”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.
الرابط: (acpss.ahramdigital.org.eg/News.aspx?Serial=55).
(6) أخبار مصر،25″ يناير .. علامة فارقة فى تاريخ مصر”، التلفزيون المصرى، القاهرة، 22/1/2015.
الرابط: (25يناير–علامة–فارقة-فى-تاريخ–مصر (egynews.net//
(7) مركز يافا للدراسات والابحاث، “مصر .. 25يناير ثورة شعب”، القاهرة، 26/2/2011.
الرابط: http://yafacenter.com/TopicDetails.aspx?TopicID=1360)).
(8) يسرا زهران، “مذكرات هيلارى كلينتون عن ثورة يناير”، الوطن المصرية، القاهرة، 12/6/2014.
الرابط: (elwatannews.com/news/details/502507).
(9) عمر نجيب، “مصر وتحديات المرحلة الانتقالية فى زمن الفوضى الخلاقة”، مجلة ميدل إيست أونلاين، لندن، 11/4/2014.
الرابط: (http://middle-east-online.com/?id=171039)
(10) د جمال عبد الجواد،” حدود الدور الخارجى فى ثورات الربيع العربى“، مجلة الديمقراطية، العدد 57، القاهرة، 31/12/2014.
الرابط: (http://democracy.ahram.org.eg/News/1364/Subscriptions.aspx).
(11) طارق عثمان، “ثورات وثورات مضادة: فى تحولات النظام الاقليمى العربى”، مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 26/8/2014.
الرابط: (http://studies.aljazeera.net/ResourceGallery/media/Documents/2014/8/26/2014826102821715580Revolutions.pdf)
(12) صافيناز محمد أحمد، “عام من الثورة التونسية”، مرجع سبق ذكره.
(13) رشيد الجراي، “ضم رموز بن علي لمجلس أمني استشاري بتونس كفاءة أم عودة للقديم”، لندن، صحيفة رأى اليوم الالكترونية، 27/4/2015.
الرابط: (raialyoum.com/?p=249537).
(14) أشرف أصلان، “عسكر مصر معضلة الخروج الآمن”، الجزيرة نت، الدوحة.
الرابط: (aljazeera.net/news/reportsandinterviews/2012/1/25).
(15) د. بوحنية قوى، “(الجزائر ـ المغرب ـ موريتانيا) فى ظل الربيع العربى: إصلاحات أو إستعصاء ديموقراطى؟”، جامعة ورقلة، الجزائر، 28/9/2011.
الرابط: (maspolitiques.com/mas/index.php?option=com_content&view=article&id=176:-mag-&catid=10:2010-12-09-22-53-49&Itemid=7#.VpN63HjW4T4)
(16) سمير الحمادي،“أزمة الديموقراطية : قبل ثورات الربيع العربى وبعدها”، معهد العربية للدراسات، 13/11/2013.
الرابط: (studies.alarabiya.net/files)
(17) مركز نماء للبحوث والدراسات، “النموذج الثورى التونسى: المسار ، التحديات، رهانات الانتقال”، المملكة العربية السعودية، 25/9/2015.
الرابط: (nama-center.com/ActivitieDatials.aspx?ID=134)
(18) اليوم السابع، “القوات المسلحة أثبتت قدرتها على حماية التحول الديموقراطى”، القاهرة، 24 /12/2012.
الرابط: (youm7.com/story/0000/0/0/-/886497#.VpODf3jW4T4)
(19) صبحي غندور، “رؤية عروبية لمتغيرات عربية: معيار التغيير الإيجابي المطلوب”، مركز الحوار العربي، واشنطن، 19/9/2011.
الرابط: (alhewar.com/Sobhi_Ghandour_2011_Uprising_articles.htm)
(20) حمزة المؤدب، “الارهاب فى تونس: بين هشاشة الوضع الداخلى وتعقيدات الوضع الاقليمى”، مركز كارينجى للشرق الاوسط، الدوحة، 23/3/2015.
الرابط: (http://carnegie-mec.org/publications/?fa=59464)
(21) د. فتوح الشاذلى، “مصر تحت وطأة الطوارئ من جديد بعد عام واحد من إلغائها: قراءة قانونية في ضوابط اعلان الطوارئ ومفاعيله“، المفكرة القانونية، القاهرة، 20/8/2013.
الرابط: (legal-agenda.com/article.php?id=492&lang=ar)
(22) باتريك كينجسلى، لينة الشريف، “الجارديان: كيف مات 37 سجينا فى سيارة ترحيلات أبو زعبل؟”، الشروق المصرية، القاهرة، 23/2/2014.
الرابط: (shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=23022014&id=6850e77a-3413-4066-a676-c2c36707919e
(23) حمزة المؤدّب ، “مشروع قانون للمصالحة الاقتصادية في تونس“، مركز كارينجى للشرق الاوسط، الدوحة، 17/9/2015.
الرابط: (http://carnegie-mec.org/publications/?fa=61495)
(24) صلاح الدين الجورشي، ” نقد تجربة النهضة في تونس بعد الثورة“، نون بوست، تركيا، 27/10/2014.
الرابط: (http://www.noonpost.net/content/4093)
(25) توفيق المدينى، “تونس فى قلب إعصار الربيع العربى”، مجلة الوحدة الاسلامية، السنة الثانة عشر، العدد 134، يناير 2013.
الرابط: (http://www.wahdaislamyia.org/issues/133/tmadini.htm)
(26) سيد صالح، “من التصويت بنعم واجب شرعي إلي غزوة الصناديق: المشاعر الدينية خارج نطاق التجريم!“، الاهرام، القاهرة، 30/3/2011.
الرابط: (ahram.org.eg/archive/Investigations/News/70156.aspx)
(27) رأى اليوم الالكترونية، “المرزوقي يدافع عن تحالف الاسلاميين والعلمانيين المعتدلين في تونس“، لندن، 18/11/2014.
الرابط: (raialyoum.com/?p=180551)
(28) خالد شمت، “جبهة الانقاذ..تحالف المعارضة المصرية”، الجزيرة نت، الدوحة.
الرابط: (aljazeera.net/news/reportsandinterviews/2012/12/18)
(29) منار فكرى، “سعد الدين ابراهيم : الصراع بين الدولة والإخوان لن ينتهى إلا بالمصالحة“، الموجز، القاهرة، 5/11/2015.
الرابط: (elmogaz.com/node/238143)
(30) إبراهيم فوزى،“التحول الديمقراطي في تونس.. أعوام من التقلبات”، فكر أون لاين، 29/9/2014.
الرابط: (fekr-online.com/article)
(31) المرجع السابق نفسه.
(32) عادل السنهورى،“جريمة قتل المصريين الشيعة مسؤولية مرسى”، اليوم السابع، القاهرة، 25/6/2013.
الرابط: (youm7.com/story/0000/0/0/-/1131551#.VpOgHHjW4T4)
(33) د. حسن أبو طالب، “تحديات جسام تُواجه السلطات والشعوب في بلدان الربيع العربي“، سويس إنفو، سويسرا، 10/1/2013.
الرابط: (swissinfo.ch/ara)
(34) رانيا مكرم،“التوظيف السياسي لمواقع التواصل الاجتماعي”، المركز الاقليمى للدراسات الاستراتيجية، القاهرة، 12/10/2014.
الرابط: (rcssmideast.org/Article/2692)
(35) طارق عثمان، “ثورات وثورات مضادة: فى تحولات النظام الاقليمى العربى”، مرجع سبق ذكره.
(36) بدر الإبراهيم، “خريف النخب في الربيع العربي”، الجزيرة نت، الدوحة.
الرابط: (aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2011/8/29)
(37) (CNN) العربية، “مصر: إقرار قانون يمنع ترشيح رموز النظام السابق“، 27/5/2012.
الرابط:
http://archive.arabic.cnn.com/2012/egypt.2011/4/12/egypt.newlaw)/)
(38) محمد منيسى، “هل يفعل السيسى قانون العزل السياسى على رموز مبارك”، المصريون، القاهرة، 21/12/2014.
الرابط: (masress.com/almesryoon/732685)
(39) خميس بن بريك،”جدل بتونس بشأن عزل رموز النظام القديم”، الجزيرة نت، الدوحة.
الرابط: (aljazeera.net/news/reportsandinterviews/2014/4/23)
(40) مصطفى القلعى،“لماذا أسقط راشد الغنوشي قانون العزل السياسي في تونس”، صحيفة العرب، لندن، 6/5/2014.
الرابط: (alarab.co.uk/m/?id=21928)
(41) محمود صلاح عبد الحافظ، “الاحتجاجات الفئوية فى مصر: تحدى الحكومات والرؤساء”، البديل، القاهرة، 10/3/2014.
الرابط: (masress.com/elbadil/706085)
(42) إبراهيم نوار،”مصر وتونس..أوجه الشبه والاختلاف”، المركز العربى للبحوث والدراسات، القاهرة، 13/11/2014.
الرابط: (acrseg.org/17383)
(43) عبد العزيز النويضي،“إشكالية العدالة الانتقالية: تجربتي المغرب وجنوب إفريقيا”، مركز الجزيرة للدراسات، المملكة العربية السعودية، 14/2/2013.
الرابط: (http://studies.aljazeera.net/files/arabworlddemocracy/2013/01/201312410191634162.html)
(44) فرانس 24، “رباعي الحوار في تونس يفوز بجائزة نوبل للسلام 2015″، 12/10/2015.
الرابط: (france24.com/ar/20151009)
(45) فديو، “مرتضى منصور يغير القسم أثناء أداء اليمين بإضافة كلمة مواد للدستور”، موقع اليوتيوب، 10/1/2016.
الرابط: (youtube.com/watch?v=goRNHUtlo5A)
(46) د. نبيل عبد الفتاح،” مخاطر غياب الثقافة فى حياتنا”، التحرير، القاهرة، 3/1/2016.
الرابط: (tahrirnews.com/posts/362926)
(47) محمود جبر،”الدور الخارجى فى الثورات العربية .. المخاطر والتحديات”، مجلة الوعى العربى، القاهرة.
الرابط:
http://elw3yalarabi.org/modules.php?name=News&file=article&sid=17507