شأن دولي
الثورة بلا قيادات في القرن الحادي والعشرين


يشهد العالمُ اليوم قدراً كبيراً من عدم الاستقرار واللا يقين، وفشلاً متزايداً للدول والوحدات الدولية في الاستجابة لمتطلبات الأمن والاستقرار.
الكتاب: الثورة بلا قيادات: كيف سيبادر الناس العاديون إلى تولي السلطة وتغيير السياسة في القرن الواحد والعشرين؟
المؤلف: كارن روس، المترجم: فاضل جتكر
المؤلف: كارن روس، المترجم: فاضل جتكر
الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، آذار/مارس 2017، 255 ص. قراءة: عقيل سعيد محفوض
ولأن منطق السياسة المتمركز حول الدولة والسيادة والحدود الخ لم يعد قادراً على الاستجابة لمتطلبات الحياة، واحتواء مصادر التهديد في عالم اليوم، فإن من الضروري أن يتم النظر إلى عالم السياسة من منظور جديد، أو براديغم جديد بحسب تعبير معروف لـتوماس كون.
يعلن الكاتب والدبلوماسي البريطاني السابق كارن روس في كتابه “ثورات بلا قيادة: كيف سيبادر الناس العاديون إلى تولي السلطة وتغيير السياسة في القرن الواحد والعشرين” الذي صدرت ترجمته العربية عن سلسلة عالم المعرفة في الكويت في مارس/ آذار 2017، أن ثمة بروزاً نشطاً لنمط جديد من السياسة في عالم اليوم، حيث تتزايد التفاعلات بين مليارات الناس حول العالم، وأن ثمة “نظاماً عولمياً سائباً، سيالاً، ليس مضبوطاً، ولكنه ليس في فوضى كاملةً”، وإنما هو في حالة “بين الانضباط والفوضى”، ص11.
لا يدعو الكتاب إلى نمط جديد كلياً من السياسة، وإنما إلى إيلاء نمط موجود بالفعل، يترصد ويتقصى مؤشراته وتحولاته حول العالم، مشيراً إلى بروز احتمالية نشطة للتغير بناء على تصرفات أفراد وجماعات صغيرة وأحداث مفاجئة وطارئة، يقول: “في الأنظمة المعقدة، من شأن أفعال فرد واحد أن تُحدِثَ تغيراً للنظام كله”، من قبيل حادثة البوعزيزي في تونس التي أدت إلى “إحداث زلزال سياسي خَضَّ العالمَ العربي”، ص 11.
وهكذا “فالنمط القديم لممارسة السياسة، حيث كانت الحكومة تضغط زراً لإحداث نتيجة معينة في المجتمع، باتَ بالياً، بالفعل، لم تَعُد الحكومات قادرةً على معرفة النظام إلا لاحقاً”، وعلى نحو غير كامل”، ص13-14.
وعلى الرغم من أن الحكومات قادرة على مراقبة أدق تفاصيل حياة الناس وتحركاتهم، وتمتلك قدرة متزايدة على القوة والتدمير، إلا أنها تبدو أقل قدرة على التنبوء بما سوف يحدث، وخاصة مصادر التهديد المتزايدة مثل الإرهاب والكوارث البيئية والاهتزازات والخضّات الاجتماعية.
يمتدح الكتاب الكيانية الكردية في شمال سوريا. يقول جازماً ان “الحكم من القاعدة إلى القمة يحتضن جميع الأعراق، والأديان، والطوائف. الناس يقررون مصائر شؤونهم الخاصة معاً. … من شأن ذلك أن يكون مثالاً يحتذى بالنسبة إلى العالم”. ص 16. ولو ان دينامية تلك الكيانية لا تتصل كثيراً بما يرصده أو يقترحه في كتابه. وهذا واحد من الأمثلة العديدة على تقديراته ومبالغاته الإيديولوجية وأحكامه المتسرعة.
يتحدث الكتاب عن أربع أفكار بسيطة تقدم “مقاربة مختلفة جذرياً لإدارة شؤوننا”. ص 21.
– الفكرة الأولى: “ان من شأن تحرك فرد واحد أو جماعة صغيرة، في نظام متزايد الترابط، … أن يؤثر في مجمل النظام بسرعة فائقة”. ص21، ومن ذلك ما يفعله مثلاً: مشجع في مبارة كرة قدم، تفجير انتحاري، حادثة اغتيال، حيث “يغدور الشخص الواحد فريقاً، ثم لا يلبث أن يتحول إلى حركة”. ص21.
– الفكرة الثانية: “الأفعال، لا الأقوال، هي المقنعة”، ص 22، حيث يمكن للبيانات والدعوات ووسائط التواصل أن تحشد الرأي، لكن الأصل هو في “التحرك”.
– الفكرة الثالثة: الترابط والنقاش، ص22. ويقترح الكتاب أن تقوم الجموع بدردشة كما في الديمقراطية الأثينية القديمة، يقول “ما إن يُقدِم حشد من الناس على اتخاذ القرارات بنفسه حتى تكون النتائج لافتة ومثيرة”، وتكون “وجهات نظر الجميع مسموعة، والسياسات تأخذ جميع المصالح في الحسبان”، ص 23.
– الفكرة الرابعة: وهي متضمنة في الكتاب من ألفه إلى يائه –على ما يقول الكاتب- وعنوانها “سلطة حسم الأمور بأنفسنا. لقد فقدنا الوكالة. وعلينا أن نستعيدها”، ص 23.
ينتقل الكتاب إلى الحديث عن عدد من مشكلات العالم، مثل الأزمات المالية والبيئية والتهديدات الإرهابية وغيرها. ويقول: “ليست زحمة الأحداث هذه شواشاً، ولا هي كتلة عشوائية بلا معنى، إنها شيء آخر. إننا بصدد تدبير جديد –تعقيد- يتطلب أدوات جديدة: علم منظومات مركبة”. ص36.
وعلى الرغم من أن عضوية الأحزاب السياسية هي في تضاؤل كبير، ص 76، إلا أن انخراط الناس في الشأن العمومي إلى تزايد، وفي هذا التطور نوع من التناقض الشكلي مع القواعد والمعايير التقليدية في فهم النشاط الحزبي والحركية السياسية.
يتحدث الكتاب عن نجاح كبير في استيراد التقنيات السياسية أو التقنيات ذات الاستخدام السياسي كما حدث في “الثورات الملونة” في أوكرانيا وجورجيا وتونس ومصر، وتقنيات الحشد والتنظيم بواسطة الرسائل النصية (SMS) كما حصل في غير مكان من العالم، ص 120، ولكنه لا يشير إلى أن الكثير من تلك الظواهر ربما تم بترتيب وتدخل غربي يستهدف ما يعده الغرب مصادر تهديد صاعدة.
ويهتم الكتاب بالإشارة إلى التجاذبات بين الصين وشركات “مايكروسوفت” و”غوغل” و”ياهو”، ويسكت عن قيام حلفاء للغرب بأمور مشابهة، كقيام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مثلاً بحظر “تويتر” و”فيس بوك” خلال تظاهرات “غيزي بارك” وأثناء الأزمات المتكررة التي شهدتها تركيا في السنوات الأخيرة.
ولا يهتم الكاتب البتة بأن جانباً من الأزمات الإقليمية والدولية يتم التهيئة له وتعزيزه والمدافعة عنه وإمداده بالمال والمعلومات من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، ومن ذلك مثلاً كيف أن واشنطن أعلنت منذ فترة مبكرة من الحرب السورية عن إمداد مجموعات المعارضة المسلحة بأنظمة اتصال فضائي، وتدريب الجماعات الأخرى على العمل الإعلامي.
يتحدث الكتاب عن تسعة مبادىء لريادة التحرك من قبيل: تحديد القناعات واتخاذ المبادرة، وأخذ حاجات الآخرين بالحسبان، والمخاطبة والتفاوض، واللا عنف، والتركيز على أقوى نقاط العدو لاستهدافها، لأن سقوطها يعني انهياره.
يجزم الكاتب أنه “لا يمكن الاعتراض” على المبادىء المذكورة أعلاه، ص 215، ولكنه يخفف النمط قليلاً عندما يقول: “لن يُحدث شخص واحد ملتزم بهذه المبادىء ثورة كوكبية، وإن استطاع، ربما، إضفاء صفة الثورة على حياته الخاصة. غير أن من شأن الفعل الصادر عن شخص واحد أن يحفز آخرين ويدفعهم. وإذا بادرت الكثرة إلى تبني هذه المبادىء، فإن ثورة نعم ثورة بلا قيادات، ستصبح طافية على السطح بوضوح آخر المطاف”. ص 216.
ويشير الكتاب إلى أن الأفعال الصغيرة والفردية يمكن أن تحوّل الهزيمة إلى نصر، أو العكس، وهي ليست بالضرروة من صنع الفاعلين الكبار وإنما هي قرارات طارئة لأفراد.
يقول الكاتب في خاتمة كتابه: “وصلنا إلى أحد منعطفات التاريخ الذي يصبح فيه التغيير الأساسي العميق ممكناً”، ص 222، وكما يحدث في نظرية توماس كون فقد بات الأنموذج أو البراديغم القديم بالياً وغير ملائم، وثمة “أنموذج جديد يطرق الباب بقوة”، إنما “بقوة المثال والقدوة”.
يخرج قارىء الكتاب بتقديرات متناقضة، ذلك أنه يتضمن أفكاراً ومؤشرات هامة، ويتقصى انفلات معنى السياسة والقوة من التمركز حول الدولة والنظم السياسية إلى طيف جماهيري أو جمعي أوسع؛ ولكنه يورد العديد من القصص والأخبار والانطباعات الشخصية التي قد لا تنسجم مع موضوع الكتاب. وقد يتساءل القارىء عن مدى الارتباط بين العنوان والمضمون، وهل جاءت الفصول منسجمة ومعبّرة عن كل ذلك. والواقع أن الكاتب يفشل في إظهار القدر المناسب من الموضوعية والابتعاد عن التحيّز للرؤى الغربية، ولم يستطع أن يتفادى منزلق مناهضة اليسار والفواعل والمؤشرات غير المناسبة للغرب، ويضع الكاتب انطباعاته وتقديراته الشخصية مقام التجارب والخبرات العلمية.
ما نؤشر عليه بالنقد هنا، قد يكون هو أحد مداخل تلقي الكتاب لدى شريحة من القراء العموميين أو المثقفين غير المتخصصين في الغرب الناطق بالإنكليزية، لأنه تضمن سرديات كثيرة وقصصاً وأخباراً غير مألوفة كثيراً، الأمر الذي يساعد الكتاب على تجاوز النمطيات الثقيلة التي تحكم الكتابات المتخصصة أو ذات الموضوعات غير المطروقة كثيراً. وأما بالنسبة إلى قراء العربية، فتبدو الإشارة إلى عوالم السياسة والقوة والمعنى خارج الدولة وخارج الديمقراطية التمثيلية مناسبة ومساعدة في تفسير العديد من التحولات والخضات في العالم العربي، كما يمكن أن تساعد في تقصي مؤشرات وفواعل التغيير في المنطقة في المرحلة القادمة.
المصدر: الميادين نت