شأن دولي

سوريا الحائرة: مستقبل حروب القواعد العسكرية في الشرق الأوسط

•تتحرك واشنطن في مسار موازٍ، ولكنه قائم على الغموض، بما يثير تكهنات حيال نمط السياسات الأميركية التي تجسد ما يعتبره البعض تقاسم نفوذ على الأرض.
•رغم تباين التقديرات واختلاف الاتجاهات بشأن عدد المواقع العسكرية المرتبطة بالجيش الأميركي على الأراضي السورية، فإن هناك ما يشبه الاتفاق على أن عددها ليس محدوداً.
•نيكولاس بيرنز: «مع وجود الجيش الروسي كقوة مهيمنة في سوريا، فإن الخيارات المتاحة للولايات المتحدة محدودة».
•تعد السيطرة على المعابر الحدودية وتأثيرها على مسار المعارك، واحدة من القضايا المفصلية التي تدفع بالصراع المشتعل حول البادية السورية.
•تحاول إيران السيطرة على مناطق واسعة من البادية السورية وتحويلها إلى مواقع عسكرية، لاستغلالها في مشروعها الرامي إلى بلوغ الضفة الشرقية للبحر المتوسط، وفق مشروع يطلق عليه مجازاً «خط الحرير» الإيراني.
•تقوم مقاربات أطراف الصراع في سوريا، من الناحية العسكرية، على تعزيز الحضور غير المؤقت في ميدان الصراع، وليس إداراته عن بُعد، عبر قواعد عسكرية بعيدة.
•الولايات المتحدة «راهنت على أكراد العراق، لأنهم شركاؤها الاستراتيجيون منذ غزو العراق في عام 2003، فهم في نظرها أكثر موثوقية»، وهو ما يفسر توفير الغطاء الجوي لهم في الشمال السوري.
•الصراع لم يحسم بعد، ولكنه ينبئ في الوقت عينه بأن ثمة عودة لسياسات «الاستيطان» في المنطقة، عبر بناء قواعد عسكرية تمهد لإقامة دائمة فيها.

في الوقت الضائع بين مؤتمرات «جنيف» و«آستانة»، المتوالية دون جدوى حقيقية ونتائج ملموسة تنهي الصراع الممتد لسنوات خلت، تحولت القوى الفاعلة في سوريا إلى توسيع مناطق نفوذها، عبر إنشاء الكثير من القواعد العسكرية التي، وفقا للخبراء، تمهد بشكل فعال الطريق نحو حل سياسي، قد لا يبتعد عن أفكار التقسيم المؤجل أو الكونفدرالية السياسية، التي تقسّم الساحة السورية لمناطق نفوذ فعلية وأماكن تمركز عسكرية، تناط بقوى إقليمية ودولية أكثر منها بقوى وفواعل محلية، يرتبط ذلك باطراد خطوات تأسيس قواعد عسكرية، من قبل كل من واشنطن وموسكو، وكذلك طهران، وأخيرا أنقرة، التي قررت أن تتضمن عملية «سيف الفرات» إقامة «قواعد» مماثلة، تستهدف منها كغيرها من الفواعل الرئيسية على الساحة السورية، التأثير وحجز مقعد رئيسي على طاولة مباحثات مستقبل سوريا.

عائلة سورية تفترش الأرض امام السفارة الألمانية في أثينا 17 يوليو الماضي في محاولة للحصول على حق اللجوء في ألمانيا بسبب رفض السلطان اليونانية بقاء عائلات سورية على أراضيها (غيتي)

وعلى الرغم من أن كثيراً من جغرافيا انتشار هذه القواعد على الساحة السورية تبدو معروفة، غير أن إمكانياتها، وتوسعاتها، وأهدافها، ونمط الاحترازات الأمنية بشأنها تدفع بعض الدول إلى إضفاء قدر من الغموض حيال أعدادها، وتمركزاتها، ومهامها العسكرية. وقد عكس السجال التركي – الأميركي الأخير، في أعقاب نشر وكالة أنباء «الأناضول» تقريراً يرصد توزيع القواعد الأميركية على الأراضي السورية، طبيعة التوظيف لهذه القضايا الشائكة في إطار صراعات التوتر في سوريا.
وتبدو روسيا واحدة من الدول التي تتخذ مقاربات واضحة في هذا الشأن، فقبل توقيعها لاتفاق عسكري يُبقي قواتها في سوريا لمدة تصل إلى 49 عاما، مع النظام السوري، فإنها تمتلك تجسيدا لحضورها العسكري قاعدتين في سوريا، إحداهما قاعدة جوية في حميميم باللاذقية، وأخرى بحرية في طرطوس، ومن المقرر أن تكون أكبر قاعدة بحرية لها خارج الحدود، وتحظى روسيا إلى جانب ذلك بتمركزات عسكرية بمناطق كثيرة من ضمنها منطقة عفرين في شمال سوريا. وقد أشارت تقديرات ترتبط بالمعارضة السورية إلى أن موسكو اتجهت أخيرا إلى تعزيز قواتها ووجودها في الجنوب السوري، عبر أدوات منها الشروع في بناء قاعدة عسكرية شمال مدينة درعا.

على جانب آخر، تتحرك واشنطن في مسار موازٍ، ولكنه قائم على الغموض، بما يثير تكهنات حيال نمط السياسات الأميركية التي تجسد ما يعتبره البعض تقاسم نفوذ على الأرض، يعكسه توزيع القواعد العسكرية للجانبين الروسي والأميركي. وقد أعلن أخيرا عن زيادة القوات الأميركية في سوريا إلى نحو 900 جندي، وذلك بعد أن أرسلت زهاء 400 جندي من مشاة البحرية الأميركية، لدعم العمليات العسكرية في الرقة، معقل تنظيم داعش. ووفقا لتقارير دولية، أقامت القوات الأميركية الكثير من القواعد العسكرية في شمال سوريا. ووفق تقرير وكالة «الأناضول»، فالقوات الأميركية تستثمر، منذ عام 2015 في عمليات ممنهجة وتصاعدية لتوسيع التمركز العسكري في المناطق الخاضعة للأكراد، حيث أسست قاعدتين جويتين، الأولى في منطقة رميلان بمحافظة الحسكة في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2015، والثانية في بلدة «خراب عشق» جنوب غربي مدينة كوباني. وفي الشمال الغربي منها أنشأ أيضاً موقعا عسكريا كبيرا في مدينة «صرين» في محافظة حلب.
وتستخدم القوات الأميركية مراكز للقيادة، ضمن معسكرات «قوات سوريا الديمقراطية»، وبغرض ضمان أمن هذه المواقع، يُعلن في محيطها ما يطلق عليه «الأراضي المحظورة»، ويبلغ عددها نحو ثمانية موقع عسكري، تضم جنودا معنيين بتنسيق عمليات القصف الجوي والمدفعي للقوات الأميركية، وضباطاً مسؤولين عن تدريب الكوادر العسكرية الكردية. هذا في حين باتت مدينة الحسكة بدورها تشمل زهاء ثلاثة مواقع عسكرية أميركية، أحدثها يقع في بلدة «تل بيدر» الشمالية. والموقع الثاني في «الشدادي»، والقاعدة الثالثة في جنوب المدينة بمنطقة «مبروكة». وأقامت واشنطن مؤخراً مركزين لقيادة العمليات في مدينة منبج، الموقع الأول في بلدة «عين دادات». والثاني في بلدة «أثريا» بريف حماة الشرقي. هذا إضافة إلى موقعين في محافظة الرقة، الأول في جنوب «كوباني»، ويضم، فضلا عن عناصر من القوات الخاصة الأميركية، عناصر من القوات الخاصة الفرنسية، والثاني في «عين عيسى» ويعمل فيه 200 عسكري أميركي و75 عنصرا من القوات الفرنسية.

وعلى الرغم من تباين التقديرات واختلاف الاتجاهات بشأن عدد المواقع العسكرية المرتبطة بالجيش الأميركي على الأراضي السورية، فإن هناك ما يشبه الاتفاق على أن عددها ليس محدودا، وأنها تتمركز في الشمال السوري، وفي الجنوب، خصوصا بالقرب من تقاطعات الحدود بين سوريا وإسرائيل والأردن، حيث حلفاء واشنطن الأكراد في الشمال، و«مغاوير الثورة» في الجنوب. وفي مقابل ذلك، هناك قاعدة بريطانية في سوريا تقع بالقرب من الحدود السورية مع الأردن والعراق، وفي منطقة «الحمد» الصحراوية في جنوب شرقي محافظة حمص، على بُعد 240 كم من مدينة تدمر. كما تشير اتجاهات إلى وجود قاعدة ألمانية في نفس الحيّز الجغرافي الممتد شمال سوريا بالقرب من مدينة «عين العرب» ذات الغالبية الكردية، وكذلك إلى وجود قاعدة عسكرية فرنسية في شمال سوريا بالقرب من الحدود التركية.

يتوازى مع ذلك محاولات إقليمية لتقاسم النفوذ وإثبات الوجود على الساحة السورية، فتسعى إيران من جانبها إلى استنساخ النموذج الروسي، عبر تدشين قواعد عسكرية دائمة، وليس محض تمركزات عسكرية متنقلة، وتشير تقديرات غربية في هذا السياق، إلى أن طهران أقدمت بالفعل على تدشين قاعدتين عسكريتين، واحدة في مطار دمشق الدولي، وهو مقر الحرس الثورى الإيراني، والأخرى في جبل عزان بالقرب من حلب. ويبدو أن أحدث القواعد العسكرية في سوريا هي القواعد التركية التي لا تزال قيد الإنشاء. وهي تقع في المنطقة التي تسيطر عليها تركيا، بالقرب من حدودها الجنوبية.

محركات سباق القواعد العسكرية في سوريا

تشير معطيات التطورات المتلاحقة في الميدان السوري، وكثافتها، إلى أن ثمة توجها دوليا وإقليميا لتحويل مناطق النفوذ إلى ما يمكن اعتباره مساحات خاضعة للسيطرة والتحكم، عبر أدوات من ضمنها القصف في بعض الحالات لـ«قوات غير تابعة»، أو من خلال تمكين ودعم «قوات حليفة»، وكذلك تكثيف الوجود علي الأرض عبر إقامة قواعد عسكرية، وذلك وفق ما تعتبره بعض تيارات المعارضة السورية مقدمة لـ«سيناريو التقسيم»، سيما في ظل توجه الأكراد في 22 سبتمبر (أيلول) المقبل لتنظيم انتخابات على مستوى الإدارات المحلية والمناطقية (الكومانات) أي المؤسسات البلدية، وأخرى في 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، للإدرات والمجالس المحلية، ثم انتخابات مجالس المحافظات في 19 يناير (كانون الثاني) 2018.
وقد يعكس ذلك رغبة كل الأطراف في التحرك الاستباقي، قبل تحرير مدينة الرقة، والتي قد تعني عمليا إنهاء «مرحلة تنظيم داعش» في سوريا، بما من شأنه أن يبرز حجم التناقضات، ومدى تباين المشروعات الإقليمية، والأجندات الدولية حيال سوريا، وفي هذا السياق، تعرض وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف للقواعد العسكرية الأميركية، وقال إن وجود تلك القواعد لا يملك أي أساس قانوني، وأضاف: «هم إذن يريدون أن يحصلوا في سوريا على مثل ما لدينا، لكن أكثر بعدة مرات»، لافتاً إلى أن «الفرق في أننا لا نخفي قواعدنا، وتم تأسيسها بموجب اتفاقيات حكومية»، أما الولايات المتحدة فهي «لا تعلن عن قواعدها، وحقيقة أن تلك القواعد لا تقوم على أسس قانونية أمر واضح للجميع».

وقد تتعدد أهداف واشنطن من الإسراع في تدشين قواعد عسكرية، يرى البعض أنها قد يتجاوز عددها بنهاية هذا العام 12 قاعدة، فيرتبط البعض منها بمحاولة موازنة النفوذ الروسي، ذلك أن موسكو منذ أن تدخلت في الساحة السورية في عام 2015، وهي تتبنى مقاربة تقوم على تحويل وجودها وحضورها المكثف لدعم نظام الأسد إلى «مقر إقامة» دائم لتعزيز مصالحها، حيث عملت مبكرا على تدشين دفاعاتها الجوية. كما نشرت أنظمة الدفاع الصاروخي المتقدمة «S – 300» و«S – 400» إلى جانب الطائرات المقاتلة.
ولإضفاء شرعية على هذا الوجود ادعت موسكو أن وجودها يرتبط بإطار توافقات دولية واتفاقيات عسكرية مع الحكومة السورية، كما استغلت إقدام واشنطن على توجيه ضربات في أوقات متفرقة لتمركزات الجيش السوري، لكي تصنع حواجز نفسية وعسكرية أمام القوات الأميركية، حيث حذرت مرات كثيرة من كونها لن يكون بمقدورها، ضمان سلامة الملاحة الجوية فوق السماء السورية، ولجأت في أكثر من مرة إلى استراتيجيات تجميد عمليات التنسيق المشترك في هذا الشأن، كما لوحت بأن «مشغلي أنظمة الدفاع الجوي الروسية لن يكون لديهم الوقت الكافي لتحديد مصدر الضربات الجوية، وإن الرد قد يكون سريعاً».

هذا فيما تأتي التحركات الأميركية في إطار محاولة التعاطي مع ما حذر منه السفير نيكولاس بيرنز، نائب وزير الخارجية الأميركي السابق للشؤون السياسية، وأستاذ السياسة الدولية في كلية كنيدي للحكم في جامعة هارفارد حينما قال: «مع وجود الجيش الروسي كقوة مهيمنة في سوريا، فإن الخيارات المتاحة للولايات المتحدة محدودة». ويبدو أن تحولات الميدان العسكري، الذي همش، من ناحية، قوى المعارضة المعتدلة، لصالح قوات نظام الأسد، ومن ناحية أخرى، قوات «سوريا الديمقراطية الديمقراطية» (قسد) – البالغ عددها نحو 70 ألف مقاتل – دفع واشنطن أخيرا إلى وقف برامج تسليح ودعم المعارضة، خارج إطار «مغاوير الثورة» (الجبهة الجنوبية)، وقوات «قسد» التي يهيمن عليها مقاتلو وحدات حماية الشعب الكردي (PYD). وقد استبقت واشنطن ذلك باستراتيجيات موجهة ومحددة سلفا، بصرف النظر عن طبيعة الإدارة الأميركية، قائمة على دعم الوجود المباشر في سوريا، وليس محض التمركز عبر «وكلاء محليين».
نتج عن ذلك توافقات جزئية تعلقت بما تم التوصل إليه بين الرئيس الروسي ونظيره الأميركي، في قمة مجموعة الـ20، في مدينة هامبورغ بألمانيا، بشأن إقامة «منطقة آمنة» في الجنوب السوري، بما يضمن إبعاد قوات «حزب الله» وإيران عن الحدود بما يقدر ما بين 30 إلى 50 كم. بيد أن التباينات لا تزال تكسو مجمل المشهد بين أهداف السياستين الروسية والأميركية، ولعل هذا ما أكده مدير الاستخبارات المركزية الأميركية مايك بومبيو، الذي قال في كلمة أمام ندوة سنوية بشأن قضايا الاستخبارات والأمن القومي: «إننا نحاول طبعا، إيجاد المجالات التي يمكننا التعاون مع الروس فيها، لكن مصالحنا ليست متماثلة». واتهم موسكو بأنها «تحاول إزعاج واشنطن»، وعَبر عن اعتقاده بأن الروس «يبحثون عن أماكن يمكنهم تعقيد الأمور علينا فيها، وأخرى يمكنهم الاستفادة من حضورهم فيها». وأضاف: «من وجهة النظر الاستخباراتية، من الجلي للعيان أنهم ينوون البقاء في سوريا». وشكك بومبيو في أن روسيا «انتهجت استراتيجية جدية» لمكافحة الإرهاب الدولي في سوريا، وقال إن الافتراض بأن روسيا حليفة لأميركا في سوريا، لا يجد تأكيدا في التطورات على الأرض.

وعلى الرغم من أن الإدارة الأميركية الراهنة تتبنى فكرة إقامة المناطق الآمنة، التي ترددت في تبنيها الإدارة السابقة، على النحو الذي دفع وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، إلى القول إن واشنطن تدعم فكرة إقامة مناطق آمنة مؤقتة داخل سوريا، بيد أنه لم يُقدم أي تفاصيل بشأن تلك المناطق، والمسؤوليات الأمنية فيها، مما قد يزيد من مساحات التباين، والمخاوف من نمط المقاربات المتباينة والمرتبطة بتناقض المصالح في الميدان السوري، وذلك بعيدا عن شعارات مكافحة الإرهاب التي تُوظف لخدمة المصالح البرغماتية والأهداف الوطنية.

صراع القواعد العسكرية.. توازن ضعف أم قوة؟

يعكس الصراع على تدشين قواعد عسكرية في سوريا، ما يمكن أن يطلق عليه «توازن قوى»، غير أنه في جوهره يكشف حالة من «توازن الضعف»، فأي من الأطراف الدولية أو الإقليمية لهذا الصراع ليس قادرا على حسم الصراع، الذي بات مصدر استنزاف للقدرات، بما يدفع اضطرارياً أطرافه إلى البحث عن مناطق نفوذ ثابتة بديلا عن مراكز النفوذ المؤقتة، ليحين حدوث متغيرات تفضي إلى مسارات تصعيد جديدة أو سيناريوهات تهدئة طارئة. بيد أن تداخل ساحات التمركز وتقاربها ودلالات السيطرة على البعض منها، يدفع كل طرف ليس وحسب على تحصيل أكبر قدر من المكاسب، وإنما العمل المكثف على إحباط خطط تحرك الأطراف المقابلة، مع تفادي أن يتحول ذلك إلى مواجهة مباشرة.
لذلك فعلى الرغم من عمل واشنطن الممنهج لتعزيز الحضور العسكري الأميركي في الجنوب السوري، فإن روسيا تعمل في اتجاه موازٍ من أجل ألا يقوض ذلك مصالحها في مدينة الرقة، والتي تُعد منطقة رئيسية في كل من التحركات العسكرية الأميركية والروسية في سوريا، وتعمل موسكو في هذا السياق على التحرك عبر توفير الدعم الجوي للجيش السوري والميليشيات التابعة له، في ريف الرقة الجنوبي، وذلك لمحركات من ضمنها استهداف أن تؤول السيطرة على المدينة بعد سقوط «داعش» إلى قوات النظام السوري، كما تتحرك في محور مواز نحو مدينة دير الزور.

وفي هذا السياق، تعد السيطرة على المعابر الحدودية وتأثيرها على مسار المعارك، واحدة من القضايا المفصلية التي تدفع بالصراع المشتعل حول البادية السورية، سيما باتجاه بغداد شرقا، بما دفع واشنطن لتأسيس قاعدة عسكرية بالقرب من منطقة حميمة جنوب غربي البوكمال، في مقابل قيام إيران بمحاولات السيطرة على مناطق واسعة من البادية السورية وتحويلها إلى مواقع عسكرية، لاستغلالها في مشروعها الرامي إلى بلوغ الضفة الشرقية للبحر المتوسط، وفق مشروع يطلق عليه مجازاً «خط الحرير» الإيراني، عبر الحدود العراقية والسورية واللبنانية. وكذلك الصراع بين جيش النظام السوري و«مغاوير الثورة» على مناطق واسعة في مدينة دير الزور، بما دفع قوات التحالف إلى تدشين قاعدة عسكرية في منطقة الشدادي، وهي القاعدة العسكرية الثالثة لتنظيم «مغاوير الثورة»، بعد قاعدتي «التنف» و«الزكف»، على امتداد مناطق السيطرة للمغاوير على الحدود السورية العراقية.
وتشير تقديرات إلى أن أحد محركات كثافة الانتشار العسكري الغربي في سوريا يرتبط بمحورية مواقع اكتشافات الغاز والبترول، غرب نهر الفرات، ومحورية شرقه بالنسبة لمشروعات خطوط النفط والغاز المستقبلية، كما يتداخل ذلك مع تصاعد أدوار روسيا على مسرح إقليم الشرق الأوسط، بما يدفع بالعمل على مراقبة النشاطات الروسية في قاعدة حميميم، إضافة للقواعد الأخرى التي حصلت عليها من النظام كمطارات بادية حمص، ومطار القامشلي وغيرها، والتي تشمل مراقبة حركة الطائرات، وأنواعها، وقدراتها وفاعليتها، إضافة للأسلحة غير التقليدية التي يمكن أن تنشرها روسيا في سوريا، وبخاصة الصواريخ البالستية والصواريخ البعيدة المدى، والتي في حال نشرت في سوريا فستكون تهديداً جدياً للقواعد والمصالح الغربية في الشرق الأوسط.

لا ينفصل ذلك عن الصراع متعدد الأبعاد بين روسيا وواشنطن، سيما بعد إقدام الأخيرة على نشر مكونات الدرع الصاروخية الأميركية، في شرق أوروبا، بما أفضى إلى خلط الأوراق، وسعي موسكو إلى تبني مقاربات هجومية تقوم على إنقاذ وجودها العسكري على شواطئ المتوسط. وعلى الرغم من أنه منذ منتصف القرن الخالي لم تنشر موسكو بشكل علني أي صواريخ بالستية خارج النطاق المعتاد، والذي يشمل أراضي الاتحاد السوفياتي السابق، فقد مثل نشر صواريخ برؤوس غير تقليدية في الشرق الأوسط تهديداً حقيقياً للمصالح الغربية، خصوصاً بالنسبة للقواعد العسكرية في الخليج، والتي غدا «زمن الإنذار» بالنسبة لها أقل، وبات قسم منها في مدى القاذفات التكتيكية الروسية، التي بإمكانها عسكرياً أن تقلع من «حميميم»، لتتعرض للقواعد الأميركية في قطر أو العراق، خلال زمن قصير نسبياً، وكذلك بالنسبة للقاعدة البريطانية في قبرص أو السفن الأميركية في البحر الأحمر والمتوسط، حيث كانت هذه القواعد آمنة نسبياً من تهديدات روسيا المباشرة، حتى إنشاء القاعدة الروسية في حميميم.
وتشير تقديرات إلى أن موسكو سعت عمداً إلى الإيحاء بأنها نشرت أسلحة نووية في قاعدة حميميم، حينما سربت صوراً لبطاريات صواريخ «إسكندر» القادرة على حمل رؤوس نووية، واختراق منظومات الدفاع الجوي. هذا في حين قامت الولايات المتحدة بنشر صواريخ المدفعية المتنقلة (HIMARS) في مدينة التنف، بما أنتج وضعا مشابها لذلك الذي شهدته بلدان شرق أوروبا، حينما قامت موسكو بوضع صواريخ إسكندر، في مواجهة مكونات الدرع الصاروخية الأميركية.

التحالفات المتبدلة والقواعد العسكرية في سوريا

تقوم مقاربات أطراف الصراع في سوريا، من الناحية العسكرية، على تعزيز الحضور غير المؤقت في ميدان الصراع، وليس إداراته عن بُعد، عبر قواعد عسكرية بعيدة، حال ما غدا الدعم والإسناد الجوي عبر تركيا أو قطر، على نحو يضمن حرية أكبر واستجابة أسرع، ويترتب عليه أيضاً القدرة على تكثيف توظيف المروحيات القتالية، التي غابت تقريباً عن مشهد المعارك في سوريا، لصالح استخدامات المقاتلات القاذفة، وطائرات الإسناد. يأتي ذلك في ظل استراتيجيات تستهدف تأمين قواعد للإمداد والتموين والخدمات المختلفة للقوات الأميركية والغربية.
ومن الناحية الجيواستراتيجية، فثمة تحولات وتبدلات تشهدها أنماط التحالفات على مسرح العمليات السوري، ذلك أنه في الوقت الذي تشهد فيه العلاقات الروسية – التركية تطورات إيجابية ملموسة يعبر عنها «مسار آستانة»، فإن العلاقات الأميركية – التركية تشهد توترات غير مسبوقة، في ظل مظاهر دعم «الطموح الكردي»، سيما مع توالي إرسال شحنات الأسلحة الأميركية إلى القوات الكردية، والتي كان آخرها في يوليو (تموز) 2017، هذا إضافة إلى اتخاذ الوجود العسكري الأميركي من الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا مناطق نفوذ وتمركز رئيسية، ما يشير، حسب التقديرات التركية، إلى مخطط أميركي لترسيخ «الانفصال الكردي» أو إرساء «نظام فيدرالي» في سوريا، وكرسالة لتركيا مفادها أن واشنطن تملك بديلا لقاعدة إنجرليك، والتي تراجع توظيفها بنسب تصل إلى 75 في المائة، حسب بعض التقديرات الغربية.
ولعل ما يضاعف من هواجس تركيا أن هذا التوجه يتعلق أيضاً بالكثير من المواقف الغربية، ففيما انسحبت ألمانيا من قاعدة إنجرليك، فإن فرنسا باتت تتخذ مقاربات أكثر مرونة وتنسجم مع هذه السياسات، عبرت عن ذلك صحيفة «لوموند» الفرنسية، حينما أشارت إلى أن «وحدات حماية الشعب أصبحت الحليف الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي في الحرب ضد الإرهاب»، مشيرةً إلى قول الرئيس الفرنسي السابق، فرنسوا هولاند: «كما أحرز الأكراد تقدماً في العراق، فإنه يمكنهم أن يحرزوا تقدماً في سوريا أيضاً».
وقد أشارت، ماريا فانتابييه، عضو مجموعة الأزمات الدولية، إلى أن الولايات المتحدة «راهنت على أكراد العراق، لأنهم شركاؤها الاستراتيجيون منذ غزو العراق في عام 2003، فهم في نظرها أكثر موثوقية»، وهو ما يفسر توفير الغطاء الجوي لهم في الشمال السوري. وتشير كثير من التقديرات التركية إلى أن مخاوف أنقرة وتوجهاتها حيال دمشق، باتت تدفعها إلى العمل على ألا تتحول القواعد العسكرية الغربية في سوريا، لخدمة مشروع الانفصال الكردي، وتفتيت سوريا.
وفي هذا السياق كانت مصادر كردية قد أوضحت أن ثمة توجها تركيا للتعاطي مع الدعم الأميركي لأكراد سوريا، عبر إنشاء أكثر من قاعدة عسكرية في ضواحي بلدتي «الراعي» و«أخترين». ويقول رامي عبد الرحمن، مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، أن هناك قاعدة واحدة في الراعي، وأخرى في جرابلس، وثالثة في جبل عقيل غرب الباب. ويشير في هذا السياق إلى أن سوريا أضحت بالفعل دولة خاضعة لـ«وصاية دولية» متعددة الأطراف، خصوصا بالنظر إلى سعى القوى الإقليمية والدولية إلى الحفاظ على القواعد العسكرية التي تقع في مفاصل الدولة، وعلى مفترق طرقها ومحاورها الجغرافية الرئيسية، وأيضاً توسيع ما تمتلكه من قواعد، وذلك على نحو يجعل تقسيم سوريا حقيقة ملموسة. ووفقا لمركز دراسات (MEMRI)، فإن النظام في سوريا ناشد الأمم المتحدة مرتين بسبب قيام تركيا بإنشاء قواعد عسكرية في سوريا تستهدف تعزيز نفوذها في المنطقة الشمالية.
وتشير بعض الاتجاهات الأكاديمية إلى أن هذه التطورات ليس من شأنها وحسب تخفيض مستوى الاعتماد على القواعد الغربية في تركيا، وإنما أيضاً القواعد العسكرية في الخليج. ذلك أن القواعد الغربية في سوريا تؤمن خط تحرك مرن مع الكثير من ساحات الصراع في الإقليم، بما قد يفضي إلى تغيير نماذج التحالفات العسكرية في المنطقة، والتي قد تشهد صعود حلفاء جدد وتراجع أهمية آخرين، على سلم المصالح والأولويات البرغماتية الغربية في الإقليم.

استهداف طهران في الميدان السوري

قسمت إيران الجغرافيا السورية إلى خمس مناطق عسكرية، إحداها مركزية، والبقية فرعية، حيث تخضع كل منها إلى مركز قيادة مختلف، وتشير اتجاهات إلى أن إيران تعمل على أكثر من محور من أجل إقامة قواعد عسكرية، شملت مطار دمشق الدولي، وإقامة قاعدة عسكرية في حلب، وكذلك في القنيطرة، والثكنات العسكرية في البادية، والتي عملت واشنطن على إحباطها، مما اضطر إيران إلى بناء ثكنات عسكرية في مناطق «ظاظا»، و«السبع بيار»، و«جليغم»، و«الشحمي»، تحوي ميليشيات طائفية تابعة لها، بالإضافة لمجاميع الحرس الثوري الإيراني. وهناك عدة قواعد فرعية عسكرية لطهران في حمص، وحماة، ومناطق العلويين والقلمون.

وفي هذا السياق، تعاظمت لغة التصعيد الأميركي ضد طهران، من خلال تصريحات الرئيس دونالد ترمب، وإظهاره عداء علنياً للسياسة الإيرانية، التي تحاول السيطرة على المعابر مع العراق، وتحذيرها عبر القصف الجوي المتكرر لمناطق تمركز الميليشيات المحسوبة عليها، من المساس بمصالح واشنطن الحيوية، واتجاهاتها حيال مسار الصراع. وتعتبر الكثير من الاتجاهات أن تصعيد الوجود الغربي على الساحة السورية، إنما يستهدف في أحد أهم محركاته الوجود الإيراني، سيما في ظل سياساتها العدائية حيال بلدان الخليج، وتصاعد القلق من برنامجها الصاروخي، فضلا عن الهواجس من صدق النيات من وراء المشروع النووي.
يُظهر ذلك مدى تشابك الملفات، وتداخل القضايا، ليبدو للبعض أن سوريا والإقليم مقدمان على تحولات غير محدودة، فمحض توزيع خريطة القواعد العسكرية في الميدان السوري يكشف أنها ترتبط بالمواقع الخاضعة للسيطرة الكردية، وترتبط بالرؤى والتوجهات الإسرائيلية – الأميركية حيال الجنوب السوري، وكذلك تتداخل مع ملفات الصراع الروسي – الأميركي، وقضايا العلاقات مع إيران وما تمثله من تحديات، وهو وضع يتشابه مع السائد في العراق، حيث القواعد العسكرية في شمال العراق، وكذلك في المحافظات السنية، بما يطرح مخاوف تتعلق بالمسار المستقبلي لتسوية الصراعات المتصاعدة في سوريا والعراق، خصوصا في ظل تزايد دعوات البعض داخل مناطق سنية في العراق للانضمام إلى إقليم كردستان، ما لم يتم إعلان إقليم حكم ذاتي للسنة، بالتوازي مع إعلان «استقلال» إقليم كردستان العراق، بعد الاستفتاء المقرر في سبتمبر 2017.
وتتمركز القواعد الأميركية في العراق، فيما يعرف في الخرائط بـ«الإقليم السني»، والشامل لعدد من المحافظات العراقية، تشمل حسب الاتجاهات السنية العراقية، مدن نينوى، الأنبار، صلاح الدين، ديالى، وأجزاء مهمة من كركوك وبغداد، كما توجد بكثافة في كردستان العراق. لذلك، فخريطة توزيع القواعد العسكرية في الإقليم، تشير إلى توجهات جديدة لإعادة التمركز في ساحات جديدة وبالقرب من ساحات الصراع في الإقليم، وقد يأتي في هذا الإطار انتقال القوات الألمانية من قاعدة «إنجرليك» إلى قاعدة «الأزرق» في الأردن.
هذا في وقت كشف فيه موقع «The Daily Beast» عن قاعدتين عسكريتين أميركيتين تعمل واشنطن على إنشائهما، بالقرب من الجنوب السوري، على الحدود مع العراق والأردن، سيما أن ذات الموقع أوضح أن من بين القواعد الكثيرة التي أنشأتها الولايات المتحدة حتى الآن في مناطق متفرقة بالقرب من سوريا، قاعدتين عسكريتين جديدتين في الأردن، إحداهما بالقرب من الحدود الجنوبية لسوريا، والأخرى في شمال شرقي الأردن، موضحا أن القاعدتين قادرتان على استقبال طائرات من دون طيار، وطوافات، وطائرات العمليات الخاصة.
بناء على ذلك، فقد لا تنفصل عن هذه المعطيات محركات استراتيجيات إقامة مناطق «خفض التوتر»، والتي شملت حتى الآن منطقتين في «الغوطة الشرقية» بوساطة مصرية، وفي الجنوب السوري، عبر توافقات روسية – أميركية، مع تركيز التحرك التركي تجاه مدينة إدلب، فيما التحركات الإيرانية تمر من دمشق إلى حلب مروراً بحمص والقلمون، بما يؤشر إلى أن ثمة تقاسما عمليا للنفوذ، وبينما تعمل تدريجيا واشنطن على عزل إيران عن تحقيق أي مكاسب استراتيجية في سوريا، سيما في «الجبهة الجنوبية»، فإن المقاربات الروسية، يبدو أنها أثرت سلبا على قدرة تركيا على التحرك حيال الشمال السوري، سيما في مرحلة ما بعد خروج المعارضة من مدينة حلب.

يشير ذلك إلى أن الصراع لم يحسم بعد، ولكنه ينبئ في الوقت عينه بأن ثمة عودة لسياسات «الاستيطان» في المنطقة، عبر بناء قواعد عسكرية تمهد لإقامة دائمة فيها، تعود إلى كل من روسيا وأميركا وإيران وتركيا، مع توجهات غير منفصلة لكل من فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، وفي ظل غياب طرف سوري رسمي أو من المعارضة له وزن نسبي في مواجهة هذه القوى الإقليمية والدولية، فإن ذلك قد يضمر تقسيماً واقعياً لجغرافيا البلاد، بناء على الانقسامات الطائفية والعرقية، في مشهد يعيد ذاكرة التاريخ إلى القرن التاسع عشر، حينما قدمت الجيوش الأوروبية إلى المنطقة لحماية الأقليات من عسف السلطنة العثمانية، فيما كان هدفها النهائي اقتطاع مناطق نفوذ وتقاسم تركة «الرجل المريض».
وقد أشارت إلى ذلك مجلة القوات المسلحة الأميركية (Armed Forces Journal)، والتي كانت قد نشرت تقريراً كتبه رالف بيترز، الكولونيل السابق في الجيش، والذي خدم في شعبة الاستخبارات العسكرية أيضاً، تحدث فيه عن عملية تغيير معالم دول الشرق الأوسط من الناحية الجغرافية، تنشأ عبرها دول جديدة، وتنقسم دول أخرى، وتتغير معالم دول، وتندمج دول أخرى. وعلى الرغم من أن الروس والأميركيين يكررون التزامهم بوحدة الأراضي السورية، فإن خطة «مناطق التهدئة» والتوافقات الأميركية – الروسية في أعقاب لقاء بوتين – ترامب في ألمانيا، يمكن أن تؤديا عملياً إلى شيء شبيه بما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حينما تم تقسيم الدولة إلى أربع مناطق تخضع كل واحدة منها لنفوذ كل من الاتحاد السوفياتي السابق، وواشنطن، وباريس، ولندن.
وخلال خمس سنوات وضعت تلك الدول بصمات نفوذها بعيد المدى في المناطق الخاضعة لسيطرتها عبر الدستور ونظام الحكم والقوانين، وقد كان ذلك أحد محركات عملية التقسيم التي شهدتها ألمانيا في منتصف القرن الماضي، واستمرت بعد ذلك لخمسة عقود. بيد أن خطورة ما يحدث في سوريا والعراق بالتزامن، أنه يرتبط بخطوط الصدع الطائفية والعرقية، بما قد يخلق أوضاعاً مركبة، أشار إليها صراحة، الرئيس الروسي، حينما أبدى في مطلع يوليو 2017، قلقه من تزايد احتمالات تقسيم سوريا، انطلاقاً من تحول مناطق «خفض التوتر» التي اقترحتها بلاده، إلى مناطق تقاسم نفوذ بين القوى المتصارعة.

المجلة العربية ، 04-08-2017

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق