دراساتشمال إفريقياليبيا

ليبيا: آفاق المشهد في ظل التوازنات القائمة

ملخّص:
تعيش ليبيا على وقع تطورات على غاية من الأهمية.متغيرات داخلية ومواقف دولية متضاربة . كل ذلك في ظل احتدام الخلاف بين قطبي الصراع في ليبيا وهما حكومة الوفاق وعملية الكرامة يصاحب كل ذلك أزمات اقتصادية واجتماعية كبيرة تهدد كيان الدولة، وهو ما ينبئ بتغيرات كبرى في المشهد قريبا . فهل تكون المخاضات الأخيرة قبل ولادة الحل الذي سيخرج البلاد من محنتها؟ إن كل المؤشرات تقول إن حجم التغير سيكون كبيرا، وأن المجتمع الدولي أصبح على اقتناع  بأن إطالة الأزمة في ليبيا سيزيد من منسوب الهجرة غير الشرعية التي تورق الجار الغربي . كما أن حالة الفوضى الأمنية في البلاد، نتيجة ضعف الدولة، هي بيئة مناسبة جدا لنمو التيارات العنيفة العادلة في توزيع إرهابها شرقا وغربا.فما هي آفاق المشهد الليبي في ظل موازين القوى القائمة في البلاد ؟ وما هي الأطراف المؤثرة في المشهد؟.
 


مقدّمة:
ليس من السهل بالمطلق تحديد طبيعة التوازنات القائمة في ليبيا.  ذلك أن المشهد متحرك باستمرار. تطورات داخلية وتجاذبات خارجية وحكومة معترف بها دوليا تشتغل وسط هذه المتناقضات ولا تملك من أوراق القوة إلا الاعتراف الدولي. وبالتالي قدرتها على المبادرة تبقى محدودة جدا. أما بقية القوى الداخلية فهي ليست  متشرذمة ومختلفة فقط، بل في جلها منقسمة على نفسها. هذا الواقع المأزوم جعل من توازن الضعف السمة الغالبة على المشهد وبالتالي إمكانية إحداث اختراق مهم من أي طرف من الأطراف ليس في الوارد في الظرف الراهن. كما يجعل من الأطراف الخارجية اللاعب الأقوى في الساحة بما تحمله من أجندات متضاربة. فما طبيعة هذه التدخلات؟ ومن هي الدول المؤثرة في المشهد؟ ومن هي الأطراف الفاعلة في الداخل؟
موازين القوى الداخلية والأطراف المؤثرة:
إن تحليل الواقع الداخلي في البلاد مرتبط بفهم طبيعة القوى المؤثرة والدور الذي تلعبه. فأهم القوى الفاعلة في البلاد الآن هي حكومة الوفاق الوطني  وتيار فبراير بشقيه المساند لاتفاق الصخيرات والرافض له وعملية الكرامة في الشرق. أما بقية القوى فإن حركتها مرتبطة إلى حد بعيد بأحد هذه القوى الثلاثة. 
– حكومة الوفاق الوطني:
 إن حكومة الوفاق الوطني بقيادة  فايز السراج هي الطرف الأقوى الآن في البلاد رغم ضعف قوتها الأمنية والعسكرية. فهي  تستمد قوتها وحمايتها من المجتمع الدولي ومن الكتائب الأمنية في طرابلس ومن طرف قوي في مصراته هو خط الوفاق المساند لاتفاق الصخيرات ومخرجاته والمسنود بقوة عسكرية معتبرة في المدينة. إن أهم المشكلات التي تعانيها حكومة السراج والتي أفقدتها الكثير من مصداقيتها وهيبتها هي الأزمات المستفحلة في البلاد والتي استعصت عن الحل وهي أزمة السيولة النقدية وانهيار سعر الدينار وأزمة الكهرباء المفتعلة حسب أغلب المراقبين في الداخل. هذه الأزمات تؤرق حياة المواطن الليبي الذي يعيش أوضاعا اقتصادية واجتماعية صعبة جدا وهو ما جعله يفقد الثقة في الحكومة وفي الأحزاب السياسية وفي كل منجزات الثورة. وإلى جانب هذا الفشل الكبير في مستوى ما تقدمه الحكومة من خدمات للمواطن تكابد هذه الحكومة في الملف  السياسي انطلاقا من فلسفة الوفاق التي اعتمدتها كخيار استراتيجي بعيدا عن الحلول  العسكرية التي ثبت فشلها في البلاد.
 إن الهدف الأسمى الذي تسعى إليه حكومة الوفاق الوطني هو توحيد البلاد تحت قيادة حكومة واحدة مقرها العاصمة طرابلس. وهذه الغاية ليست بالأمر الهيّن على الحكومة في ظل الواقع المعقد الذي تعيشه البلاد وفي ظل التدخل الأجنبي. فهذه الحكومة ضعيفة الإمكانيات في الداخل خصوصا في مستوى ذراعها الأمني. فهي عمليا لا تمتلك إلا عددا قليلا من عناصر الحرس الرئاسي الذين يعملون فعليا تحت إمرتها. أما بقية الكتائب العسكرية سواء في طرابلس العاصمة أو في بقية المدن والتي تدعي أنها موالية لحكومة الوفاق هي في الواقع تتعاون مع الحكومة دون أن تكون موالية لها بالمطلق. فالسراج، رئيس المجلس الرئاسي، لا يستطيع فرض أوامره على هذه الكتائب ولا يستطيع التصرف في أسلحتها أو في عناصرها. ولعل المعضلة الكبرى التي كانت قائمة في البلاد إلى حدود هذه الأيام في البلاد والتي تعتبر تحديا رئيسيا لحكومة الوفاق الوطني هي تسمية قائد عام  للجيش الليبي الذي بإمكانه فرض سيطرته ونفوذه على كامل التراب الليبي تحت السلطة المدنية للحكومة. ولقد تمكن السراج أخيرا وبعد أشهر من الانتظار والأخذ والرد والمفاوضات العسيرة وسط التوازنات الهشة والمتغيرة من تسمية اللواء الركن عبد الرحمان الطويل رئيس لجنة الترتيبات الأمنية المنبثق من اتفاق الصخيرات في هذا الموقع المهم والفاصل. وهو ما يعتبر نقلة نوعية في المشهد ويصبّ في مصلحة المجلس الرئاسي. إذ أنه بهذه الخطوة يكون قد غذّى كيانه بمصدر مهم من مصادر القوة التي يفتقدها. ولكن يبقى السؤال هو في مدى قبول القوى العسكرية في مصراته والغرب الليبي بهذه الشخصية التي عليها بعض التحفظات. فالعميد الطويل لم ينضم للثورة إلا بعد 6 أشهر من انطلاقتها وقاتل ضد ثوار فبراير قبل أن ينشق عن القذافي ويعلن ولاءه للثورة.
وبالعودة إلى منطق التوازنات وروح اتفاق الصخيرات الذي ينص على إبعاد الشخصيات الجدلية من المواقع الحساسة في الدولة ربما نجد تفهما لهذا الاختيار. فالعميد عبد الرحمان الطويل غير محسوب على القيادات البارزة لثورة فبراير كما أنه ليس من تنظيم الكرامة ولا يحسب على أنصار القذافي إلى جانب كونه محل ثقة  فايز السراج. فهو من أشرف على دخول أعضاء المجلس الرئاسي وأعضاء الحكومة إلى العاصمة طرابلس. كما يشرف على تأمين “قاعدة بوستة” مقر المجلس الرئاسي مع العميد نجمي الناكوع رئيس جهاز الحرس الرئاسي.
 والآن وبعد تسمية قائد الأركان العامة يبقى التحدي الرئيس الذي يعترض حكومة الوفاق في المستوى السياسي هو مسألة التوفيق بين قطبي الصراع في ليبيا وهما تيار فبراير بشقيه وعملية الكرامة، لأن 80 بالمائة من الحل في البلاد مرهون بإيجاد صيغة من التوافق بين هذين القطبين .فالمجلس الرئاسي، إلى جانب كونه منقسما على نفسه حول مجمل القضايا في البلاد، فإن عنوان الانقسام يظل الموقف من طرفي الصراع الرئيسيين. السراج رئيس المجلس الرئاسي موجود في عمق هذه الصراعات ويحاول أن يكون على مسافة واحدة من كل الأطراف المتصارعة، حتى وإن كان يدرك أن الطرف الأكثر تطرفا ورفضا للحل الوفاقي هو تيار الكرامة ولكنه لا يستطيع المجاهرة بهذا الموقف لأنه سيحسب على الجهة الأخرى. وفي هذه الحالة لن يكون طرفا محايدا وسيفقد أهم صفة تميز دوره سواء أمام الليبيين أو أمام القوى الدولية وهي صفة الرجل الوفاقي الذي قدم ليجمع الليبيين على اختلافهم. وهذا ما يمنعه في الكثير من الحالات من إبداء موقف من عديد التجاوزات التي تقوم بها عملية الكرامة وهو ما يجعل تيار فبراير يحترز كثيرا من السيد السراج الذي يرى في سكوته على تجاوزات حفتر انحيازا له . كما أن تيار الكرامة يعتبر أن السيد السراج خاضع بالمطلق لمدينة مصراته ولخط فبراير الموالي لحكومة الوفاق ولا يستطيع تجاوزهما في مجمل سياساته .وسط كل هذه المتناقضات الحادة يجد السيد السراج نفسه وهو الطرف الضعيف يصارع تيارات داخلية وخارجية متناقضة في الأهداف والوسائل ويضاف إلى ذلك مجمل الأزمات الاقتصادية الحادة التي تهدد بانفجار الوضع الاجتماعي. 
2– تيار فبراير:
يعرف هذا التيار انقساما حادا بين رافض للاتفاق السياسي ومخرجاته على اعتبار أنه ترتيب دولي وتكريس لحكومة وصاية بعيدا عن أهداف ثورة فبراير، وبين مناصر للاتفاق على علاّته.  ويساند حكومة السراج على تعثرها إيمانا منه بأنها أفضل المتاح والموجود. هذا الواقع أضعف كثيرا خط الثورة وجعل أطرافا أخرى مثل الكرامة تتمدد وسط هذه الخلافات. هذا الانقسام لم يكن سياسيا فقط بل عسكريا أيضا. فالقوة العسكرية المحسوبة على الثورة منها ما يؤيد حكومة الوفاق ومنها ما يعارضها وهذا تجلى في مدينة مصراته حيث القوة العسكرية الضاربة الموالية للثورة. هذه المدينة منقسمة على نفسها. وقد أضر هذا الانقسام كثيرا بقوى الثورة التي تعتبر القوة العسكرية الأولى في البلاد والقادرة على حسم المشهد لصالحها لو اتحدت على جملة من المبادئ الجامعة بعيدا عن لغة التخوين والشيطنة التي تميز الخطاب داخلها حيث غابت مناخات الثقة والحوار الهادئ دون أن يصل ذلك إلى الاقتتال الذي هو خط أحمر ومرفوض من كل الأطراف في المنطقة الغربية. هذا الانقسام أثّر كثيرا على أداء حكومة الوفاق التي لم تجد السند الكافي الذي يمكنها من إبداء مواقف واضحة من تيار الكرامة المتمادي في سياسات وممارسات خطيرة مدعوما بشكل فج ومباشر من دولتي مصر والإمارات العربية المتحدة واللتان تريدان أن تفرضا حليفهما خليفة حفتر في المشهد بشكل أو بآخر.
3- تيار الكرامة:
يعرف هذا التيّار الذي تشكل سنة 2014، أي بعد أشهر قليلة من الانقلاب على الشرعية في مصرن مشاكل كبيرة داخله أفقدته الكثير من مصداقيته وتسببت في تراجع شعبيته. فقائده الجنرال خليفة حفتر، الذي اعتبر في وقت من الأوقات القائد المخلص من آفة الإرهاب، أصبح اليوم في نظر أغلب أتباعه وأنصاره في الشرق رجلا طامحا للسلطة على حساب شباب القبائل الشرقية التي دفعت في عملية الكرامة أكثر من  12 ألف قتيل إلى حدّ اليوم. وقد أدرك حفتر هذا الأمر فكلف ولديه بقيادة أقوى كتيبتين في مجموعاته المقاتلة بعد منحهما ترقيات عسكرية لا يستحقانها وذلك لضمان السيطرة على المناطق التي تحت نفوده. كما قرب أبناء قبيلته من الفرجان على حساب بقية أبناء القبائل الأخرى. هذا السلوك الذي مارسه حفتر ذكر الجميع بسلوك القذافي الذي كلف أبناءه بقيادة أقوى الكتائب العسكرية في البلاد وهمش مؤسسة الجيش. إن سلوك الجنرال حفتر أثار حفيظة  القبائل في الشرق التي يعتمد حفتر على أبنائها في القتال وفي تشكيل ما يعتبره الجيش الليبي . كما أن ممارسات عناصر الكرامة على الميدان جلبت ليس فقط سخط الليبيين بل حتى القوى الدولية. إذ أن محكمة الجنايات الدولية أصدرت مؤخرا برقية جلب في حق أحد قادة الكرامة وهو المدعو محمود الورفلي بتهمة ارتكاب جرائم حرب. والأدهى من كل ذلك أن جرائم الاغتيال تكاد تكون بشكل يومي في حق العناصر التي أبدت شجاعة في نقد عملية الكرامة. كل هذه التداعيات جعلت الجميع في المنطقة الشرقية على يقين  أن عملية الكرامة لم تأت لمحاربة الإرهاب وإنما لغاية تمكين حفتر من السلطة على الشاكلة المصرية وأن الجميع انخدع فيها. وتشهد الأيام الأخيرة حركة انزياح كبيرة عن خليفة حفتر من طرف أعضاء البرلمان وقادة القبائل بل حتى من القادة العسكريين. إنّ ما يعتبر تحولا كبيرا في الشرق ضد الجنرال حفتر هو قدوم أكثر من مائة عضو من أعضاء البرلمان إلى طرابلس بغاية عقد جلسة بالنصاب القانوني في العاصمة بعد أن استحال ذلك في طبرق منذ أكثر من سنة. كما التقى وفد من شيوخ القبائل الشرقية فايز السراج في تونس ثم في العاصمة طرابلس وهو ما يعتبر سابقة  في مواقف هذه القبائل (وهي عراب مشروع الكرامة) ضد حفتر ولصالح حكومة الوفاق والسيد السراج. كما أن أحد القادة العسكريين لعملية الكرامة من قبيلة العواقير التي ساءت علاقتها كثيرا بخليفة حفتر  يمتطي الطائرة إلى تونس تحت حماية قوة من أبناء قبيلته للقاء السراج دون أن تتمكن قوة مقابلة يقودها صدام خليفة حفتر من منعه من السفر ويعين هذا القائد ،فرج اقعيم، وكيلا لوزارة الداخلية في حكومة الوفاق الوطني. من خلال كل هذه المعطيات يؤكد المراقبون من الداخل أن الوضع داخل الكرامة سينفجر وهو ما سينعكس بالتأكيد على مجمل الوضع في البلاد. لقد أدرك حفتر تماما أنه لم يعد مسنودا من وجهاء القبائل وأن بقاءه متصدرا المشهد في الشرق مرتبط بمدى قدرته على منع الالتفاف ضده . ولذلك هو يسعى الآن إلى جر القبائل للاقتتال فيما بينها حتى يبرز أمام الداخل الليبي وأمام العالم أنه الرجل القوي الذي يجب أن يضرب بقوة حفاظا على الأمن العام في المنطقة الشرقية. ولكن القبائل في الشرق متفطنة لهذا الترتيب والأيام القريبة القادمة ستكون صعبة جدا على الجنرال وأنصاره.
إن المشكل الكبير الذي يهدد عملية الكرامة في كيانها هو الخلاف المستفحل بقوة بين قائدي جناحيها السياسي والعسكري أي بين الجنرال حفتر وعقيلة صالح رئيس البرلمان .وانعكس ذلك على مؤسسة البرلمان وعلى التركيبة القبلية في الشرق وعلى وضع المقاتلين وعلى الداعمين للعملية من الخارج كما سيأتي لاحقا. لم يبق للجنرال حفتر إلا القوى الخارجية التي وضع كل بيضه في سلتها دون أن تتمكن إلى حد الآن من إحداث اختراق كبير لصالحه. بل إنها أصبحت على يقين أنه لن يكون الجواد الرابح الذي يمكن المراهنة عليه.
القوى الخارجية ودورها في الملف الليبي:
1 – الأمم المتحدة:
إن الأمم المتحدة هي الراعي الرئيسي لاتفاق الصخيرات الذي لا ترى بديلا عنه للمعضلة الليبية على ما في الاتفاق من هنات وضعف . والتغيير الأخير للمبعوث الأممي دليل على فشل كوبلر. وتسمية غسان سلامة الشخصية العربية لإدراك الأمم المتحدة بأنه أكثر قدرة على فهم العقلية الليبية وعلى التواصل بأكثر فاعلية مع مختلف الفرقاء. و الأمم المتحدة هي الداعم الرئيس لحكومة الوفاق الوطني. وتنسق مع مختلف المتدخلين الدوليين في الملف وخاصة مع ايطاليا اللاعب الأكبر في ليبيا . كما تسعى مع بقية الأطراف الدولية إلى إيجاد توافقات بين هذه الدول لتقريب وجهات نظرها للحل في البلاد . فهي لا تملك أذرعا تنفيذية لفرض مشروعها وإنما تحاول توحيد موقف المجتمع الدولي حوله .وهذا ليس أمرا هينا وإنما يستوجب مراعاة مصالح هذه الدول. وهذا عامل من عوامل تعثر المشروع الأممي في ليبيا.
2- ايطاليا:
 إن إيطاليا هي أكثر الأطراف الخارجية تأثيرا في الداخل الليبي وهي متواصلة مع مختلف الفرقاء السياسيين . كما لها علاقات مع الكتائب المسلحة الأمنية والعسكرية ومساهمة بشكل فعال في تأسيس الحرس الرئاسي الجهاز التنفيذي الذي يشتغل فعليا تحت إمرة المجلس الرئاسي. كما تنسق مع كتائب طرابلس(كتيبة قوة الردع الخاصة وكتيبة ثوار طرابلس وكتيبة الدعم المركزي) ومع بعض الكتائب العسكرية الأخرى لفرض الأمن في العاصمة ولمنع دخولها من أي جهة أخرى مناوئة لحكومة الوفاق الوطني. وسياسيا هي تتواصل مع مختلف الأطراف سواء المساندة للاتفاق أو الرافضة له. وتتواصل مع مختلف الفعاليات في الشرق المحسوبة على عملية الكرامة لمحاولة إقناعها بضرورة الانخراط في مشروع الوفاق الوطني. كما أن السيد السراج  ينسق بشكل فعال مع ايطاليا الذي يرى فيها الدولة المدركة لطبيعة ما يجري في البلاد والتي لها استراتيجية عمل واضحة انطلاقا من اتفاق الصخيرات الذي هو مرجعية ايطاليا في تصورها للحل. إن الأمم المتحدة تعتمد كثيرا على التعاون الإيطالي في الملف الليبي ودرجة التنسيق معها عالية جدا. وربما هذا ما جعل بعض الأطراف الأوروبية الأخرى على غرار فرنسا تنزعج من الدور الايطالي المتقدم جدا وتدخل على الخط في محاولة للعب دور يضمن لها مصالحها في أي حل قادم. وهذا ما أزعج الولايات المتحدة الأمريكية -وهي الشريك الأكبر للدولتين-والتي بدأت تدخل بقوة على الساحة الليبية من خلال التلويح بورقة عبد الباسط اقطيط في محاولة لفرضه كبديل عن السراج في إطار التمشي الذي أصبح الجميع مقتنعا به وهو ضرورة تغيير تركيبة المجلس الرئاسي ليصبح رئيسا ونائبين عوضا عن التركيبة الحالية التي أعاقت أداءه كثيرا.
3- فرنسا: 
تاريخيا،  ليس لها نفوذ في ليبيا. ولكنها بعد ثورات الربيع العربي  غيرت من استراتيجيتها ودخلت بقوة على ساحة الصراع في البلاد. وغاية  فرنسا من تدخلها في الملف الليبي هو ضمان مصالحها في الجنوب الليبي الغني بالثروات والذي يربطها بمستعمراتها السابقة جنوب الصحراء الافريقية. وقد وجدت في الجنرال حفتر ضالتها إذ وعدها بمصالح كبرى في هذا الإقليم الغني إن هي ساندته في بلوغ غايته وهي حكم ليبيا. ولعل الخلاف الكبير الآن بين الشريكين الأوروبيين فرنسا وايطاليا هو الموقف من الجنرال حفتر المرفوض من ايطاليا والمرغوب من فرنسا وهو ما عطّل إلى حد كبير الحل في البلاد. إن فرنسا  تلتقي مع مصر ومع الإمارات العربية المتحدة في الوقوف الى جانب حفتر رغم التباين بينها في بعض السياسات. إن فرنسا تسعى اليوم إلى فرض شريكها حفتر في المشهد رغم إدراكها استحالة تمكينه من حكم البلاد بفعل موازين القوى التي هي في غير صالحه. ولذلك سعت مؤخرا لجمعه بغريمه السراج في محاولة لإيجاد أرضية تفاهم بين الرجلين تضمن لحفتر موقعا فاعلا في المشهد ؟ ولكن المتغيرات القادمة قد تجعل فرنسا تغير كثيرا من سياساتها في ليبيا.
4- الولايات المتحدة الأمريكية: 
لقد ساهمت أمريكا في إطار الحلف الأطلسي في إسقاط نظام العقيد معمر القذافي. ولكنها بعد ذلك لم تجعل الملف الليبي أولوية لها، وإنما رحلته لحلفائها الأوروبيين بقيادة إيطاليا. إلا أن الخلاف في الرؤى والاستراتيجيات بين هؤلاء الحلفاء حول الحل في البلاد جعل الأوضاع أكثر تعقيدا، وهو ما جعل القيادة الجديدة في البيت الأبيض تقرر الدخول بقوة إلى الساحة الليبية عبر تصور هو أقرب إلى الحليف الايطالي منه إلى فرنسا. وقد تقلب الطاولة على الجميع من خلال الدفع بشخصية السيد عبد الباسط اقطيط  كبديل عن السراج الذي اتسم أداؤه بالضعف والتذبذب. وإذا تصدّر السيد اقطيط المشهد فإن مجمل سياسات المجلس الرئاسي ستكون أكثر وضوحا وصرامة تجاه مختلف فرقاء الداخل كما يلوح بذلك السيد اقطيط. كما ستحدد الأطراف الخارجية التي ستتعامل معها بما تراه يخدم مصلحة ليبيا. ويوم 25 سبتمبر سيكون يوما مهما في ليبيا لأنه سيكون يوم التظاهر لمساندة السيد عبد الباسط اقطيط . وسنعرف وقتها مدى شعبية هذه الشخصية التي تتحرك بقوة هذه الأيام.
4-: بريطانيا:
 المعروف عن الإنجليز أنهم أكثر الساسة دهاء. واليوم يلعبون دورا مهما في ليبيا ولكنه غير ظاهر . إذ أنهم يوازنون في علاقاتهم بين الشرق والغرب دون أن يكون ذلك على حساب الولايات المتحدة الأمريكية بل بتنسيق معها. إن الإنجليز يستثمرون في الفراغات وفي المناطق الرخوة وما أكثرها في ليبيا. ومؤخرا زار وزير الخارجية البريطاني العاصمة طرابلس ومدينة مصراته والشرق الليبي وحصلت لديه قناعة أن حفتر  هو أكثر طرف معرقل للاتفاق . وقد صرح إثر زيارته للشرق بكلام لم يكن منتظرا إذ قال ” أن حفتر لم يكن يقاتل لمحاربة الإرهاب وإنما من أجل حكم ليبيا” وقال أيضا ” إن حفتر أبلغه أنه إذا تمكن من الرئاسة فإنه سيوقف القتال”. لقد أدرك الإنجليز أن حفتر منته عسكريا وعليه بقبول الاتفاق السياسي إذا أراد أن يبقى في المشهد. وهذا يعتبر تطورا في الموقف الإنجليزي الذي بقي غامضا لفترة طويلة.
5- مصر:
 المعلوم أن مصر هي من كان وراء تأسيس عملية الكرامة وهي المساند الرئيس للجنرال حفتر الذي يعتبر السيسي مثله الأعلى. ولولا مصر لما كانت الكرامة ولما كان حفتر بهذا الحضور في المشهد الليبي. لقد راهنت مصر بكل ما تملك على التمكين لحفتر منذ أكثر من ثلاث سنوات ودعمته بالأسلحة المختلفة وبالعمل المخابراتي. بل إن جنودا مصريين ساهموا في القتال مؤخرا في بنغازي في محاولة للسيطرة عليها بعد أن عجز حفتر عن ذلك. ولكن مصر الآن حصلت لديها قناعة وهي العارفة بالتفاصيل الدقيقة للمشهد في الشرق الليبي وفي كل البلاد أن حفتر لن يكون له مستقبل في ليبيا بقوة السلاح وأن أقصى ما يمكن أن تفعله لحليفها أن تفرضه في موقع داخل السلطة يمنع جره إلى محكمة الجنايات الدولية ويضمن لها حليفا مهما في الدولة. والدليل على ذلك استقبالها مؤخرا لوفد رفيع المستوى من مدينة مصراته العدو الأول لحفتر استراتيجيا وواقعيا. وقد عاملت السلطات المصرية الوفد المصراتي بكثير من الحفاوة. وحاولت من خلال اللقاء أن تلعب دور الوسيط النزيه بين حفتر ومصراته بعد أن كانت منحازة بالمطلق لعملية الكرامة وحليفها الجنرال. إن هذه الدعوة إقرار صريح من مصر أن الرهان على حفتر عسكريا هو رهان خاسر وأن عليها أن تلعب دورا دبلوماسيا يقربها من الطرف القوي في ليبيا وهو مدينة مصراته عاصمة الثورة وعمودها الفقري.
6-الإمارات العربية المتحدة:
 هذه الدولة هي عرّاب مشروع الثورة المضادة في دول الربيع العربي. ودورها في ليبيا غير مخفي. فهي من تمد الجنرال حفتر بالمال والسلاح وهي من أسست أغلب القنوات التلفزية التي تشتغل ضد خط فبراير. كما تسعى هذه الدولة ليكون السيد العارف النايض السفير الليبي لديها والمعروف بموقفه المناهض لقوى الثورة أن يكون بديلا للسيد السراج. هذه الدولة تلتقي موضوعيا مع مصر وفرنسا في العديد من السياسات. ويبقى هدفها الرئيس في ليبيا إجهاض ثورة فبراير. ولكن بمزيد تقهقر مشروع الكرامة ستجد هذه الدولة نفسها خارج معادلة الوفاق في ليبيا.
7قطر وتركيا:
 هاتان الدولتان ساندتا الثورة الليبية من بدايتها. ولكن دورهما في دعم قوى الثورة خفت بعد ذلك وهو ما جعل الدور المصري والإماراتي يتقدم في البلاد على حساب قوى الثورة التي من المفروض أنها مدعومة من هاتين الدولتين. ولكن هذا لا يمنع من القول أنه لهما من العلاقات مع مختلف الأطراف المؤثرة ما يضمن لهما دورا مهما في التسويات القادمة انطلاقا من اتفاق الصخيرات الذييعتبر المرجع الأساسي للحل في ليبيا.
آفاق المشهد في ظل التطورات المتسارعة:
يمكن القول اليوم أن “الصراع” انحصر بين السيد السراج والجنرال حفتر أي بين الوفاق والكرامة مع خفوت لدور البرلمان والمجلس الأعلى للدولة وهما المؤسستان التشريعيتان والرقابيتان وفق اتفاق الصخيرات. إنها الحرب الباردة بين الرجلين على رقعة الشطرنج والتي يحسمها الهدوء والحكمة. فمن الذي يحقق النقاط على هذه الرقعة؟ ومن يخسر قطعه واحدة بعد الأخرى؟
إلى حد الآن، فإن السيد السراج يضيّق الخناق على حفتر ويربح المساحات. فقد ضعف حفتر كثيرا في المنطقة الغربية بعد تسمية السيد أسامة الجويلي آمرا للمنطقة الغربية، وهو من مدينة الزنتان، التي حزمت أمرها مؤخرا بإيقاف التنسيق مع حفتر. كما أن تسمية السيد فرج اقعيم وهو من أبرز قيادات الكرامة وكيلا لوزارة الداخلية في طرابلس يجعل مدينة بنغازي تحت السيطرة الأمنية للسراج باعتبار السيد اقعيم  مسؤول الامن العام في المدينة وهو من قبيلة العواقير المسيطرة بقوتها على بنغازي. كما أن زيارة وفد القبائل الشرقية لطرابلس يعد اختراقا كبيرا من السيد السراج لمعسكر حفتر في مناطقه. أما الزيارة الأخيرة التي قام بها السيد السراج للسودان والتي أعاد فيها تفعيل اتفاقية حراسة الحدود مع السودان تعتبر تطويقا لحفتر وتجفيفا لمنابع المرتزقة التي يعتمد عليهم  في دعم قواته. أما سياسيا فإن الخلاف العميق بين حفتر وعقيلة صالح  يصب في مصلحة السراج لأنه يضعف الالتفاف القبلي حول حفتر ويزيد من اختراق السراج للمنطقة الشرقية . كما أن المزاج الدولي تجاه الجنرال بدأ يتغير سلبيا بشكل دراماتيكي وهذا يصب في مصلحة السيد السراج. وإن ما يبيت لحفتر في المنطقة الشرقية ينذر بأيام صعبة لعملية الكرامة في المدة القريبة القادمة وإمكانية اندلاع قتال  بقيادة ابراهيم الجضران الذي أطلق سراحه أخيرا أمر وارد جدا قد يبدأ من الموانئ النفطية وينتهي بالسيطرة على اجدابيا. وهذه المرة لن يجد حفتر دعما من قبيلة العبيدات التي منها عقيلة صالح رئيس البرلمان الذي همّشه حفتر. كما أن قبيلة العواقير، التي  ينحدر منها وزير الدفاع في حكومة الوفاق الوطني والداعم الرئيس لحفتر في حربه على بنغازي بدأت تشعر بالضّيم واشتدت خلافاتها مع الجنرال وقد تسحب أبناءها من قوات حفتر
أما  السراج، وإن كان مدعوما في المنطقة الغربية بقطاع عريض من تيار الثورة إلا أنه يلقى أيضا معارضة شديدة من جزء آخر يمتلك مصادر القوة والنفوذ وهو ما يجعل موقفه ضعيفا في اتخاذ القرار بالنظر لمنطق التوازنات رغم أن التيار الرافض لحكومة الوفاق هو قابل بحقيقة الأمر الواقع ويتعامل مع الحكومة على أنها كذلك أي أمر واقع. أما إمكانية التصادم معها فإنه في غير الوارد تماما. كما أن سوء الأوضاع الاقتصادية واستفحال الأزمات يزيد من إضعاف السيد السراج وهو ما قد يؤدي في النهاية إلى السيناريو الآخر وهو إحداث تغيير في تركيبة المجلس الرئاسي ورحيل السيد السراج خصوصا وأن الايام القادمة صعبة جدا مع اقتراب موعد 17 ديسمبر تاريخ انتهاء عهدة اتفاق الصخيرات  والبلاد ليس لها دستور يرجع إليه عند حالات الفراغ السياسي. وهذا ما دفع السيد السراج ّإلى إطلاق مبادرة إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية  قبل هذا الموعد لتلافي الفراغ. ولكن هذه المبادرة ولدت ميتة بالنظر لغياب البيئة الانتخابية السليمة لإجراء انتخابات نزيهة ينتخب فيها الليبيون من يمثلهم. ولكن الأغلب أن الأمم المتحدة بدعم من المجتمع الدولي ستمدد للاتفاق لأنه لا بديل عن ذلك. كما أن عديد الشخصيات مرشحة لخلافة السيد السراج مثل عبد الباسط اقطيط وعبد الرحيم الكيب الشخصية المحبوبة في ليبيا والتي  تذكر الليبيين بأيام الرخاء سنتي 2011 و2012 كما أن هناك شخصيات أخرى مرشحة للبروز مثل العارف النايض  وعبدالرحمان شلقم.
خاتمة:
أهم تطور في الوعي السياسي لكل الفرقاء في غرب ليبيا مركز الثقل ، هو أن ليبيا قد ودعت القتال في المنطقة الغربية إلى غير رجعة  بعد اقتناع الجميع أن الحل لن يكون إلا سياسيا. وهذا أمر على غاية من الأهمية لأنه يعجل بالحل . وتبقى التطورات في المنطقة الشرقية محددا أساسيا للمشهد القادم إذ أن كل المؤشرات تصب في غير مصلحة الكرامة  بما سيعزز من فرص الحل السياسي  الذي يخرج البلاد من محنتها التي طالت كثيرا.
 
المهدي ثابت 
المصدر:  مركز الدراسات الاستراتيجية والديبلوماسية، 2017/09/06     

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق