رأيشمال إفريقيامصر
جدل الاقتصاد والسياسة في مصر

الجهود التي تبذلها الحكومة في المجال الاقتصادي لا تقابلها جهود موازية في المجال السياسي، اعتمادا على أن الأول سوف يكون حتما قاطرة للثاني، وهي فكرة تبدو مقبولة نظريا لأن الأوضاع العامة القلقة قد تؤدي إلى التشويش.
قضية تقدم الاقتصاد على السياسة، هي قضية تلجأ إليها أنظمة كثيرة في دول العالم الثالث، لتبرير عدم قدرتها على اتخاذ إجراءات كبيرة وحاسمة في المجال السياسي، أو اللجوء إليها كذريعة لعدم القدرة على توسيع أجواء الديمقراطية والحريات عموما.
بعض الدول تمنح أولوية للاقتصاد باعتباره قاطرة للاستقرار، وهي حقيقة أثبتتها تجارب عديدة في المنطقة، كما أن الصين تقدّم نموذجا باهرا، لكن مع التطوّر في وسائل التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي أصبحت الحاجة لتوسيع نطاق الحريات مسألة حيوية، ربما تضبطها دول بالمزيد من الرقابة الإلكترونية وتدشين مشروعات تنموية وزيادة أوجه الرفاهية الاقتصادية، غير أن الحاجة لممارسة الإنسان لحريته تظل أساسية وسوف تتعاظم في المستقبل، وتحرج بعض الدول ما لم تقدم على معادلة وازنة.
الحكومة المصرية تركّز منذ فترة على المجال الاقتصادي، وأعطت جل جهودها للمشروعات التنموية التي تحتاج وقتا طويلا لجني ثمارها، وتتمدد أفقيا ورأسيا في هذا الفضاء، لحل واحـدة من الأزمات التي تؤرق المصريين منذ فترة طويلة، وتحقيق قدر مناسب من الاستقرار الاقتصادي.
وأقدمت الحكومة على تصرفات صعبة لم تجرؤ عليها حكومات سابقة وأعلنت عزمها القيام بإصلاحات حقيقية مهما بلغت قسوتها وأرهقت كاهل المـواطنين، وبدت النية ظاهرة لعدم الاستسلام لضغوط الرأي العام الـذي اعتـاد تلقي الدعم والمسـاعدات مـن الحكومـات لـدواع سيـاسية تـرمي لتجنب استفزازه أو خروجه عن الهدوء المألوف.
ما يتحقق الآن من خطوات كبيرة تجاوز حدود الاستفزاز التقليدي، مع ذلك هناك حالة من التقبّل الشعبي، إما اقتناعا بجدوى الإصلاحات، وإما ضعفا وخنوعا بعد سد الكثير من منافذ الاحتجاج والتظاهر، ولا تزال تسير التحركات الاقتصادية في القنوات المرسومة لها من قبل الحكومة، ولا يزال قطاع كبير من المواطنين يعانون وهم صامتون.
التصورات الاقتصادية اعتمدت على تدشين مشروعات عملاقة تمتد من شمال مصر إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، وتتنوع وتصل إلى مجالات مختلفة لإحداث قدر من التنمية الواعدة، حظيت باهتمام جهات عالمية، منها من تعتقد أن التوجهات الجديدة سوف تنقذ مصر من السقوط في براثن الفقر، وهي ضرورية في الوقت الراهن وتأخرها يتسبب في تدهور كثير من مقومات البيئة المصرية.
وثمة دوائر ترى أن نتائج المشروعات البعيدة تتوقف على قدرة الحكومة على تجنّب الفساد الذي ينخر مؤسسات البلاد، وتعميم الفائدة وعدم اقتصارها على طبقة محدودة، وتبنّي مشروعات لتأهيل المواطنين للتعامل مع الطفرة الجديدة، ففي ظل استمرار المرض والجهل والكسل لن يتحقق القضاء على الفقر ولن تدخل مصر نادي الدول الواعدة.
محاولة توفير الأجواء المناسبة للاستثمار وتعديل القوانين المعطلة، واحدة من الخطوات الإيجابية المهمة تضاف إلى مد البصر لدول في الشرق والغرب وتوطيد خيوط التعاون الاقتصادي معها، ما يشي بأن الحكومة عازمة على تطوير رؤيتها التنموية.
الجهود التي تبذلها الحكومة المصرية في المجال الاقتصادي لا تقابلها جهود موازية في المجال السياسي، اعتمادا على أن الأول سوف يكون حتما قاطرة للثاني، وهي فكرة تبدو مقبولة، نظريا، لأن الأوضاع العامة القلقة قد تؤدي إلى التشويش، وتقوم قوى معارضة بتوظيفها في ظل مناخ أصبح يغلب عليه الاحتقان وعدم الثقة واليقين في التحركات الاقتصادية التي تقوم بها الحكومة.
المعارضة ترى أن ما تقوم به الحكومة المصرية حق يراد به باطل، لأن فتح آفاق الاستثمار خطوة كبيرة وخروج الاقتصاد من عثراته عملية مهمة وتوفير الاستقرار المادي للمواطنين نقلة نوعية، غير أن هذه التصورات والتصرفات بحاجة إلى رؤية سياسية تعكسها على أرض الواقع وعلى مستوى زيادة اقتناع الناس بها، على أن تصاحبها خطوات تتيح الفرصة لممارسة القوى المختلفة العمل السياسي في أجواء مهيأة لتقبّل الخلاف والنقد البناء.
ما يدور الآن على الساحة المصرية أوحى للبعض من المراقبين بالحديث عن موت السياسة وكأن الحكومة لا تريد لأحد ممارسة هذا الفعل، وأنها قادرة على احتكاره لنفسها من خلال قوى مؤيدة لها في البرلمان وخارجه، وهي فقط التي يبدو مسموح لها بالعمل السياسي وفي الاتجاه المؤيد لإجراءات الحكومة.
الحاصل أن المتابع لما يجري في مصر يلاحظ بسهولة ارتفاع أصوات المؤيدين للحكومة وانخفاض أو تلاشي أصوات معارضيها، باستثناء مواقع التواصل الاجتماعي التي تحوّلت إلى ما يشبه “السيرك السياسي” الذي يستوعب ضجيج جميع القوى.
الواضح أن الحضور والتلاشي لهما أسباب ودوافع مختلفة، بعضها له علاقة بالحكومة ومن يلف لفها، والبعض الآخر على صلة بالمعارضة التي تتحمل جزءا كبيرا من دخولها مربع الخمول والكسل، بصورة وفرت للحكومة مبررات قوية للإصرار على تقديم الاقتصاد وطقوسه على السياسة ومنغصاتها، وتجاهل العمل على خطين متوازيين.
الحكومة المصرية لم تعد تتحمّل النقد، وتعتقد أن أصحابه لديهم حسابات خفية، بل وضعت تقريبا من يقوم بالاعتراض على سياساتها في مربع العميل أو الخائن أو الفاسد، وهو سلاح أرهب قطاعا كبيرا من الشرفاء، وردع قطاعا أكبـر من ذوي الميول المغرضة، حيث نجحت الحكومة في السيطرة على عدد من وسائل الإعلام من المنبع وجعلت تبعيتها لجهات تعمل تحت إشرافها، وسخّرت أدواتها الثقيلة لأهدافها والترويج لفكرة مفادها أن الدولة مستهدفة والواجب الوقوف إلى جانبها في هذه المرحلة الحرجة ومن يتخلف عن المرور في هذا السياق يستحق اللعنات.
بالتالي من الطبيعي أن تختفي المعـارضة، كل ذلك والحكومة لم تمنع أحدا صراحة من القول والعمل، بعد أن تكفل من يدورون في فلكها بالقيام بالدور المطلوب منهم على أكمل وجه، ومضت بهدوء في تنفيذ رؤيتها الاقتصادية الصعبة وسط قدر ضئيل مـن النقد الـذي يمكن تحمله حتى الآن.
أزمة الاقتصاد قبل السياسة لن تختفي في مصر أو غيرها، لأنها تجد قبولا من جانب فئات كثيرة، وعلمتنا تجارب الماضي أننا سوف نظل ندور وراء عناوين براقة تنطوي على أغراض معيّنة، ونسير في اتجاه بينما الحكومة تقبض على زمام الأمور في اتجاهات أخرى، وتفرز الطبقة التي تريد أن تواكبها في التوجهات التي تسعى لتنفيذها، ما يبعد نخبة حية من الممكن الاستفادة منها، وإذا كانت هناك رغبة فعلا في الإصلاح الشامل يجب تسخير كل الطاقات، لأن أي نقلة اقتصادية سوف تكون مشكوكا فيها والأوضاع السياسية على حالها من الانسداد.
محمد أبو الفضل
المصدر: العرب،العدد10769، 2017/10/02، ص9.