رأي
لا تلومُوا الربيع

الإعلامي أحمد الدايخ:
نقاشات واسعة تشهدها دول الربيع العربي ليس على مستوى النخب والمهتمين بالشأن العام فقط، بل حتى على مستوى العامة من الناس، وهي عن جدوى ما قامت به الشعوب من حركات احتجاجية شعبية واسعة اصطلح على تسميتها بالربيع العربي، وما آلت إليه الأوضاع بعدها؟ وهل كان من مصلحتها هذا التحرك أم أنه رَجع عليها بتردي الأوضاع الأمنية والاقتصادية وضياع السيادة فيها؟
هذا الواقع المثخن المتشابك لا يمكن تحميله على الربيع العربي بوصفه انتفاضة شعبية وجماهيرية عفوية على الظلم والاستبداد وسنوات القه؛ التي خصمت من عمر الشعب العربي كثيراً واستقطعت منه ثرواته ومقدراته .
هذه الثورات العربية لم تأت إلا كشـيء طبيعي مثله مثل باقي ظواهر السنن الكونية فهي أشبه ما تكون بالزلازل والبراكين التي تظهر في تصدع قشرة الأرض الضعيفة ، وهذا ما كانت تعانيه أشباه الدول في عالمنا العربي فهي أنظمة قد نخرتها الهشاشة السياسية ، فكانت قريبة من كل شيء إلا من مفهوم الدولة وبنيتها ، ومهتمة بكل شيء إلا بحقوق المواطنة وتنمية الحس المدني والانتمائي، كل أجهزة النظام بدل أن تكون حيادية وتهتم بالمصالح العليا للشعب، توجهت نحو خدمة الأفراد والمجموعات المتسلطة بشكل مافياوي، لقد أخذت هذه الأنظمة البوليسية فرصة كبيرة وسنين طويلة ولكنها استغلتها في التسويق لنفسها، وتمجيد مساعيها والتفاخر بما أحدثته في واقعنا من تحضّر!! والحقيقة أنها لم تكن إلا بمثابة بناء حديدي على قاعدة من الطين المخلوط بالتزوير والخرافة، ولو أن هذه الثورات امتدت إلى أنظمة عربية أخرى؛ لانكشفت عن مجد أجوف ودولة صورية بلا حقيقة .
ولهذا عندما سقطت الأنظمة العربية سقطت معها مؤسسات الدولة وآلياتها وقوانينها ، استتبعه دخول البلاد في حرب أهلية وفقر مدقع، لأن الأموال التي تأتي عموماً ليست ثمرة اقتصاد منتج فعلياً مثل تركيا، و عندما نقول تركيا، لأنها نموذج قريب ومشابه لنا من حيث المكونات التاريخية والدينية .
كل التحولات العالمية الكبرى دفعت بمختلف الدول إلى ابتداع حلول تضمن لها البقاء والتطور، إلا الأنظمة العربية ظلت لعقود على ذات الفساد السياسي من غياب العدالة والكبت والإقصاء والفساد المالي وشراء الذمم وغياب الحقوق .
ستجد أثر هذا الهزال السياسي والاقتصادي الذي كنا نعيشه على حالنا بعد الثورات ، فـ ليبيا الأن بعد الثورة تحاول التأسيس لفكر ينهض بها كدولة مدنية ديمقراطية ولكنها تفتقد إلى معيل مؤسساتي وبنية دستورية منيعة يمكن أن تساعد في إرساء هذا الحلم في الواقع الليبي، فهي بقية مما ترك القذافي ونظامه ، وصدق يوم قال : ( ستتحول ليبيا من بعدي إلى نار حمرة جمر) فهو يقول أنا ومن بعدي الطوفان، لأنه يعلم جيداً ماذا ترك خلفه من مؤسسات هزيلة واقتصاد هش وارتفاع معدل الجريمة وذهاب قيم المواطنة لصالح النوازع البدائية من حب للتملك والسيطرة، فهي لا تصلح أن تتشابك لتعبر عن صيغة من التعايش المشترك فضلاً على أن ترفع عماد دولة .
كل هذا يأتي في ظل ثورة مضادة تتزعمها دول خليجية مخافة أن يطالها انتشار موجات الاحتجاجات الشعبية، فبدل من الاستفادة مما يحدث أمام عينيها لعمل إصلاحات حقيقية وجوهرية، لجأت هذه الدول إلى تزعم الثورات المضادة بالمال والسلاح لدعم الانقلابات على أحلام الشعوب كما في مصر بوصول العسكر بزعامة عبدالفتاح السيسي أو في تونس بوصول الباجي السبسي الذي لا يمثل تطلعات الثورة من قريب ولا من بعيد، وفي ليبيا حيث تكابد ثورة فبراير الثورة المضادة المتمثلة في الإرهاب الداعشي والعنف السياسي بمنطق القوة العسكرية بزعامة خليفة حفتر.
يجب أن توجه أصابع الاتهام لمستحقيها وأن توضح الأمور كي لا يلبس على أحد، وأن نحسن قراءة الأحداث لننطلق في معالجات حقيقية لواقع مأزوم لم يولد يوم 17 فبراير ولكن ولد مع ميراث سلبي لنظام عربي قائم على الممارسة السياسية العاجزة.
لا يمكن بحال من الأحوال لوم شرائح كبيرة من الشعب خرجت تطالب بحريتها وكرامتها فحاول حاكم مستبد قمعها بكل الوسائل ثم تبعته قوى إقليمية تريد تركيع هذه الشعوب بفتاوى دينية أو بعصا عسكرية، لأن عمر هذه الشعوب أطول من عمر أي نظام استبدادي و صراخها لنيل مطالبها أقدس من كل أكوام الفتاوى الرخيصة، ولن تهدأ هذه المنطقة إلا بوصولها إلى اللحظة التي تكون فيها العلاقة بين الشعوب وحاكميها مبنية على التراضي والحكم المشروط .