شأن دولي

هذا ما جرى ويجري في الأردن

 الولايات المتحدة لم تكن في يوم من الأيام تعتمد على المقاربة الاقتصادية في إدارة الشأن الخارجي الأردني وتوجيهه وفرض إرادتها عليه، وإنما كانت تعتمد دائما على المقاربة الأمنية، والأمنية تحديدا، وهي كانت وما تزال تعتمد في هذا الشأن على اللوبي الذي يتحرك في قلب هذه المقاربة بقيادة المخابرات العامة، ولعل عدم تدخلها في أيِّ أزمة اقتصادية عانى منها الأردن منذ أكثر من 30 عاما وحتى الآن من بوابة الاقتصاد، لا ما كان منه مُعلنا ولا ما كان منه مُستترا، يؤكد على انتهاجها هذه المقاربة الأمنية التي نتحدث عنها، تاركة لغيرها من حلفائها أو أدواتها أو عملائها – لا يهم التوصيف – القيام بالتدخل وفق هذه المقارب الاقتصادية، إذا كان تدخلهم يصب في ما يخدم استراتيجيتها، وهؤلاء المتدخلون وفق المقاربة الاقتصادية هذه هم تحديدا “السعودية” وبعض حلفائها الخليجيين!!

فواشنطن اعتمدت دائما في فرض الأمن والاستقرار في البلد حتى في أحلك الظروف الاقتصادية على الضغط الأمني المخابراتي، وليس على تخفيف الضغط الاقتصادي عن الشعب الأردني وعن الدولة الأردنية!!

ولكي نفهم مُكونات هذه اللعبة راهنا علينا أولا أن نحدِّدَ مراكز القوى الصانعة أو المؤثرة في القرار السياسي الأردني فيما يتعلق بالشأن الخارجي بالدرجة الأولى!!

في هذا السياق فإننا نستطيع استقصاء مراكز القوى الكبرى التالية التي تمثِّل “لوبيات” يَسْحَبُ كلُّ مركز أو كل “لوبي” منها من الباطن مراكز ثقل وقوى فرعية متنوعة من القوى المجتمعية التقليدية من مثل (الواجهات البدوية، الواجهات العشائرية، واجهات مخيمات اللاجئين.. إلخ):

أولا: اللوبي ذي المقاربة الأمنية وتجسِّده (دائرة المخابرات العامة + قسم من البيروقراط الحكومي الفاعل).

ثانيا: اللوبي ذي المقاربة الاقتصادية ويجسِّده (الكومبرادور الاقتصادي + قسم آخر من البيروقراط الحكومي الفاعل، والحكومات غالبا ما تكون في هذا اللوبي خاصة عندما يكون اللوبي الثالث التالي مرتبكا لأسباب قاهرة، كما هو حاله الآن بسبب قضية القدس وصفقة القرن).

ثالثا: اللوبي ذي المقاربة السيادية القداسية وتجسِّده (مؤسسة العرش + قيادة الجيش + فلول من البيروقراط وفلول من الكومبرادور).

إن صفقة القرن الترامبية وضعت اللوبي الثالث في مأزق حقيقي، لأنه لوبي يكتسب جزءا كبيرا من شرعيته القداسية والسيادية من هاشميته التي ترعى الأقصى والمقدسات، فيما صفقة القرن راحت تزلزل هذه الشرعية وهذه القداسة مُضْعِفَة هذا اللوبي وهازةً مكانته في الدولة الأردنية.

إن ما يهم الولايات المتحدة من الأمر كلِّه هو عدم خروج الأردن عن قاطرة “صفقة القرن”، بشكل تراجيدي مؤثِّر يحظى بالتعاطف الجماهيري الجاد، من خلال محاولات اللوبي السيادي القداسي المستميتة للحفاظ على قوته وهيمنته وسيطرته على لعبة توازنات مراكز القوى واللوبيات في الأردن!!

ولأن الولايات المتحدة تُعْتَبَر صاحبة “مقاربة أمنية” دائما في الأردن، فإنها أقل تأثيرا في “اللوبي الثاني” ذي المقاربة الاقتصادية من تأثيرها في اللوبي الأول ذي المقاربة الأمنية الذي تعتبره أداتها الكاملة بكل معنى الكلمة، بسبب حجم السيطرة والاختراق الذي تتحصن به فيه!!

وهي من ثم – أي الولايات المتحدة – وإدراكا منها لحاجة اللوبي الثالث ذي المقاربة السيادية القداسية، إلى الإبقاء على أوراق اللعبة الأردنية بين يديه كي يضمن مركزيته في السياسة الخارجية، خاصة في هذه المرحلة الحرجة التي وضعت عنصر شرعيته الأهم (القدس والأقصى والمقدسات) على المحك، فإنها تعي جيدا أن ضغطها علبه من خلال “اللوبي الأول ذي المقاربة الأمنية” بشكل مباشر في هذه الظروف لن يُحْدِثَ التأثير المطلوب بسبب أن مكونات الأزمة الضاغطة في الأساس كان يجب أن تكون اقتصادية كي تمسَّ الشعب الأردني بأكمله، فيكون تهديد الاستقرار والتوازن ومؤسسة العرش جديا، ما دامت الأوضاع لا تتطلب مقاربة أمنية ضاغطة، لأن الشعب الأردني ملتزم دائما بسلمية أي حراك مطلبي له، ما يجعل المقاربة الأمنية لا تمتلك أي مُسَوِّغات أو ذرائع، ومن هنا ولأن المقاربة الاقتصادية هي بيد السعودية عبر التوكيل والإنابة من قبل واشنطن منذ زمن بعيد، فقد ضغطت الولايات المتحدة مستخدمة هذه المقاربة – الاقتصادية – عبر “حلفائها السعوديين” القادرين دائما على الضغط المؤثر والمنتج من “خلال اللوبي الثاني ذي المقاربة الاقتصادية” متمثلا في الحكومة!!

ولأن السعودية كرائدة عربية لمُمَرِّري “صفقة القرن” لأسباب تتطلب شرحا ليس هذا مكانه، فإنها، ومن منطلق كونها صاحبة اليد الطولى في المقاربة الاقتصادية في الأردن غالبا، فإنها هي المُكَلَّفَة بتفعيل التناقض بين اللوبي الاقتصادي، باتجاه الضغط على اللوبي السيادي القداسي الذي ما يزال يراهن في مشروعيته على رعايته للقدس بصفتها عربية وفلسطينية وإسلامية.. إلخ.

ولأن السعودية لديها تناقضات ماَّ مع تركيا بسبب الملف القَطَري تحديدا، وهو الملف الذي جعل تركيا غير مُتَحَمِّسَة كثيرا لصفقة القرن، ولما فعله ترامب بالقدس، لأن حماسَها لها وموافقتها عليها بدون تحفظات – حتى لو كانت خجولة – سوف تُفْقِدها الورقة التي تتاجر بها في مواجهة إيران ونفوذها الإقليمي، فإنها – أي السعودية – تجد في تحريك “اللوبي ذي المقاربة الاقتصادية”، ممثلا في رئيس الحكومة “هاني الملقي”، باتجاه الضغط على تركيا أردنيا رغم حرص الملك نفسه – أي زعيم اللوبي الثالث السيادي – على التقارب مع تركيا كمساند له في موقفه المدافع عن شرعيته في مسألة “القدس”، وسيلةً تَرْفِدُ بواسطتها الضغطَ الأميركي على “اللوبي الثالث السيادي القداسي “، وكل ذلك من أجل تفعيل مسارات صفقة القرن التي قيل بأنها ستبدأ بالانتقال إلى حيِّز التنفيذ بعد رمضان.

والضغط على تركيا عبر الأردن من خلال بوابة الاقتصاد، فيما بدا أنه تناقض في السياسات الاقتصادية الأردنية إزاء تركيا بين “مؤسسة العرش” التي هي “اللوبي الثالث” ذي المقاربة القداسية السيادية، و”مؤسسة الحكومة” التي هي “اللوبي الثاني” ذي المقاربة الاقتصادية، هو في المحصلة من عناصر الضغط التي كُلِّف اللوبي الحكومي بممارستها على “الشارع الأردني”، كي يتم الضغط به على “مؤسسة العرش” فترضخ لمطالب “السعودية” فيما يتعلق بصفقة القرن.

وربما لهذا السبب – ألا وهو ضرورة الضغط السياسي على مؤسسة العرش عبر الضغط الاقتصادي على الشارع – ارتفعت في الآونة الأخيرة – وتحديدا في الأشهر الستة الأخيرة – أسْهُم المعارضة الأردنية الخارجية الراديكالية المفَصَّلة تفصيلا على مقاسات مناكفة اللوبي الثالث، (الذي تقوده مؤسسة العرش)، بالقول بأن البديل الذي لن يُنَغِّص على صفقة القرن مسيرتها جاهز ومتاح، فيكون الحصار والتهديد اللذين وضعت في أتونهما مؤسسة العرش جديين ومصيريين!!

وهكذا تحركت الحكومة باتجاه اتباع سياسة الضغط الاقتصادي التصاعدي المتدرج الذي ما إن وصل إلى طرح “مشروع قانون الضريبة الجديد” للنقاش في مجلس النواب، ليليه رفع أسعار المحروقات، حتى كان الشارع الأردني بتحريك نقابي وليس حزبي هذه المرة قد أصبح محتقنا قابلا للاستجابة لأي وكزة تطالبه بالخروج إلى الشارع. وهذا ما حصل بالفعل.

إن الحراك الشعبي الأردني ذي الطبيعة المطلبية الاقتصادية الصرف خلال النصف الثاني من شهر رمضان، كان نتاجا لعملية ضغط شديدة من قبل الحكومة كانت تسابق الزمن ليتحرك الشارع فيضغط على مؤسسة العرش فتستجيب، وهو ما بدا واضحا من حرص وإصرار الحكومة عند كل عمل ضاغط تمارسه لا يستفز الشعب فيدفعه إلى النزول إلى الشارع، تقوم باستعجال إتباعه بعمل أكثر استفزازا إلى أن حصل المطلوب.

يبدو أن فترة الأسبوعين من الفعل الشعبي المتنامي في الشارع كانت كافية لترضخ مؤسسة العرش للمطالب السعودية من تحت الطاولة دون ضوضاء أو صخب، لأن المسألة لا تتطلب لا ضوضاء ولا صخبا، فكل شيء قابل لأن يتم تمريره بهدوء مع الوقت، وسارعت السعودية التي كانت تراقب الوضع عن كثب دون أن تتدخل، والتي كانت ترى الوضع الأردني على مدى سنين مضت دون أن تحرك ساكنا، إلى التدخل بعقد لقاء مكة بين القادة الأربعة “السعودي والإماراتي والكويني والأردني”، على نحو ودي عشائري أخوي، كي يتم تبليع الطعم للشعب الأردني بمنتهى الهدوء، ولتبدأ مسيرة تخفيف الضغط عن الشارع بخطوة سحب مشروع قانون الضريبة من البرلمان في أول خطوة يقوم بها رئيس الحكومة الجديد، ليشعر الشعب الأردني بأن جهوده قد أثمرت، ولكي يكون جاهزا نفسيا لتقبل الأمر الواقع الذي سيفرض عليه بعد أن يرى في القريب العاجل مسارات صفقة القرن تطل برأسها لتقول له: “لا تعترض فقد قبضت الثمن”!!

لتكون النتيجة:

أن “الشعب الأردني” يبيع نفسَه عن غير قصد، تكريسا لـ “نجومية بني هاشم” الذين لن يحاسبهم أحد لا على التفريط بالوصاية الهاشمية على بيت المقدس، ولا على الشرعية ذاتها والقائمة على هذه الوصاية، حتى وهم يندمجون إلى الأذقان في صفقة القرن، فالمثقفون الأبواق جاهزون عند الملمات.

كما أن هذا الشعب الأردني يكون قد باع نفسه أيضا شكرا لـ “مكارم آل سعود الذين دفعوا رشوة غير سخية على الإطلاق مقابل حصادٍ قادم سيجنونه قريبا من الأردن عرشا وشعبا!!

السعودية ضغطت بالحكومة على الشارع، وبالشارع على الملك الذي تنازل واستجاب للضغط السعودي!!

وهكذا تكون السعودية إذن قد ضربت عصفورين بحجر واحد:

العصفور الأول: منحت الفرصة لملك الأردن كي يستجيبَ لمتطلبات “صفقة القرن” بأقل الخسائر لمكانة مؤسسته وعائلته!!

العصفور الثاني: جعلت الشعب الأردني يقبل بتوقف نزيف خسائره – وليس بحل حقيقي لأي جزء من مشاكله – مقابل عدم الاعتراض على “صفقة القرن”!!

تتوقف الهبة فجأة بتغيير القناع، وبدعوى إعطاء القناع الجديد فرصته، كالعادة!!

ثمَّ تتم الدعوة إلى اجتماع عاجل في مكة لمناقشة الوضع الاقتصادي الأردني برعاية سعودية كريمة!!

إذن فقد مارس المنتفضون الأردنيون في هبتهم الأخيرة دور الكومبارس لـ “تنجيم الهاشميين” حتى وهم يوافقون على “صفقة القرن”، ولـ “تكريم السعوديين” حتى وهم يستخدمونهم لتمريرها بما يشبه المجان!!

أسامة عكنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق