تحاليلسياسيةشؤون إفريقيةشمال إفريقياليبيا

في البحث عن ماهية وكنه التطورات الأخيرة في طرابلس الغرب : الحيثيات والسياقات والمآلات

علي عبداللطيف اللافي*

          اختلط الأمر على كل المتابعين للتطورات في ليبيا وفي العاصمة طرابلس بالذات، حيث لم يعد أحد يدري من يُحارب من؟ ومن أجل من؟ وما هي حقيقة تلك الشعارات الانتخابية التي يُنادى بها اللواء السابع، وهل فعلا أن مشروعه يهدف الى تفعيل المؤسسات القضائية والرقابية وتفعيل مُؤسستي الجيش والشرطة ودعم الوزارات والمؤسسات العامة؟

بل أن العديد من المتابعين الأجانب من اعلاميين وخبراء من أصحاب التجارب وكبار السن استحضروا تطورات الاحداث في لبنان الثمانينات وأجروا المقارنات بين تعقد الأوضاع يومذاك في بيروت والأوضاع من حيث التعقد وتداخل العوامل والمؤثرات والسياقات بين الحالتين بين لبنان الثمانينات وليبيا 2018 …

  +++ سياقات تنامي الصراعات خلال السنتين الماضيتين  

  حول الصراع بين تياري فبراير (الكرامة – فجر ليبيا)، والقائم منذ منتصف 2014 والمغذى من طرف بعض أنصار النظام السابق وقوى الثورة المضادة وأطراف إقليمية ودولية، الشعب الليبي إلى ضحية حيث أصبحت الأطراف المتقاتلة حاضنة للمقاتلين وللمرتزقة الأجانب، وتم إيجاد بيئة مناسبة للارتزاق من خلال ممارسة العنف لأغراض البحث عن السلطة والثروة والنفوذ، فسادت حالة من عدم الاستقرار والانفلات الأمني…

لوجستيا وسياسيا يعرف الجميع أن المجلس الرئاسي لم يتمكن من الدخول إلى العاصمة طرابلس إلا تحت حماية الكتائب المسلحة الداعمة للاتفاق السياسي، ووسط سخط المعارضين السياسيين والكتائب المؤيدة لهم، وتم إرساء ترتيبات أمنية بتخطيط المنسق الأممي لبعثة الأمم المتحدة الضابط الإيطالي “باولو سيرا”، الذي يعتقد على نطاق واسع أنه كان وراء سيطرة الكتائب المؤيدة والتابعة للمجلس الرئاسي على العاصمة طرابلس في مارس 2017 وطرد الكتائب المعارضة للاتفاق السياسي، وعمليا أخذت الكتائب المسلحة الساخطة، والتي أُخرجت من طرابلس، تتحيّن فرصة الرجوع إليها حيث حاولت عدة مرات، ومقابل ذلك اتبعت الكتائب الموجودة في طرابلس وخاصة القريبة من التيار المدخلي أساليب لترسيخ نفوذها، فبالرغم من الاعتراف بقيام بعض من هذه الكتائب بدور هام ومفصلي في بسط الأمن ومتابعة المجرمين وإبعاد شبح الإرهاب عن طرابلس، إلا أن وتيرة اتهامها بالقيام بممارسات مخالفة للقانون قد ارتفعت، حيث اتُهمت من قبل الكثيرين، بارتكاب انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان من تعذيب وإخفاء قسري وقتل خارج سُلطة القانون، وبنهب واستغلال المال العام، فضلًا عن ممارستها لعمليات ابتزاز للمسؤولين في الدولة، بل أن وتيرة السخط والاستيلاء قد ارتفعت داخل العاصمة وخارجها، حتى أن بعثة الأمم المتحدة قد حذرت منذ ثلاث أسابيع من هذه الكتائب وممارساتها في بيان وصف بشديد اللهجة من قبل وكالات الانباء الأجنبية…

++ حيثيات اندلاع الاقتتال بداية من يوم 27 أوت/أغسطس الماضي  

يمكن الإشارة الى أن تطورات سابقة و تفاصيل وقرارات لقاءات ومؤتمرات عقدت في الأشهر الماضية قد مهدت ودفعت الى التطورات الأخيرة في طرابلس فلقاء داكار في ماي الماضي بين ممثلين عن فرقاء الصراع ومفاوضات النزل الغابي في العاصمة الهولندية ولقاء روما السداسي واحداث الهلال النفطي وتعيين وليامز وتبني البعض لمقترح “جلب الروس للساحة الليبية” وغيرها من الترتيبات واللقاءات والاحداث قد مهدت بشكل غير مباشر للتطورات الأخيرة ان لم نقل أن بعضها رتب للخطوط الكبرى، أما على الأرض فيمكن التأكيد أن حدث أن الفرصة قد حانت للكتائب الحانقة على كتائب طرابلس والتي وصفت أخيرا بــ”مليشيات الاعتمادات” حيث حدث صدام بين اللواء السابع “الكانيات” من مدينة ترهونة، وبعض هذه الكتائب في منطقة قصر بن غشير وسوق الأحد  (جنوب طرابلس)، وأدى ذلك إلى اشتباكات ومواجهات عنيفة ومعارك كر وفر، وقد شاركت في هذه المواجهات أغلب الكتائب التي لديها موقف عداء من الكتائب المتبقية داخل طرابلس، باستثناء بعض الكتائب التي لها امتدادات جهوية خارج طرابلس، مثال ذلك الكتيبة 301 من مصراتة، التي فضلت تجنب ذلك الصدام مع امتدادها، في حين لم تشارك كتائب تاجوراء، حتى مساء أول أمس السبت في هذه الاشتباكات بالرغم من أنها قادت مواجهات سابقة ضد الكتائب الموجودة في طرابلس.   

++ الخلفيات والسياقات السياسية والاجتماعية للأحداث  

بالرجوع للخلفية السياسية يكفي أولا التأكيد على اخفاق مجلس نواب طبرق والمجلس الأعلى للدولة في التوصل إلى أي مقاربة تخفف من حدة الانقسام السياسي، وتوحيد المؤسسات الأمنية والعسكرية والمالية، فحكومة الوفاق لم تمنح الثقة، كما أخفق المجلسان في إصدار التشريعات المنهية للمراحل الانتقالية مع أن نصيب مجلس النواب من هذا الفشل أكبر نتاج أدائه المُخزي، ولأنه الجسم التشريعي الوحيد بينما كان أداء المجلس الأعلى أفضل بشهادة كل المتابعين…

وفي السياق الاجتماعي للتطورات الأخيرة يمكن القول أن الرأي العام في العاصمة لم يلعب أي دور يُذكر في تغيير واقع الصراع والتنافس السياسي والعسكري، حيث لم تكترث الجماهير الطرابلسية لأي طرف، بل ساوت بين القوى المهاجمة والمدافعة، وانشغلت في المطالبة بحل مشاكلها المعيشية، ذلك أن رغبة الشعب الليبي تتمثل في تحقيق الأمن والاستقرار وتوحيد سلطة الدولة، وبناء مؤسساتها العسكرية والأمنية والاقتصادية، ولأن كُل طرف من الأطراف السياسية و”الميلشياوية” كان هدفه كسب القاعدة الشعبية وبناء على ذلك أفرز التنافس والصراع السياسي والعسكري سواء بين السياسيين أو بين “الميليشيات” حالة من الاستياء لدى سكان طرابلس، وصل حد مطالبتهم بنقل العاصمة إلى مكان آخر؛ لأن ذاك الصراع هو صراع على النفوذ والسلطة وليس على طرابلس بذاتها وبالتالي خسرت القوى السياسية والكتائب المسلحة أي تعاطف من الليبيين عامة، وسكان العاصمة خاصة (لم يخرج في المظاهرة التي دعت لها بعض القوى المدنية الوطنية الجمعة 31 أغسطس/أوت 2018، للمطالبة بوقف الاقتتال، سوى عشرات من المواطنين لا غير)،  ومعنى ذلك انتظار شعبي لمرحلة ما بعد المليشيات”….

++ المآلات المنتظرة والسيناريوهات المرتقبة

إزاء ما حدث، تطور الموقف الدولي من قلق إلى إدانة ثم المطالبة بوقف إطلاق النار، حيث أصدرت بعثة الأمم المتحدة بيانات متصاعدة في اللهجة بدأ بالمطالبة بضبط النفس، وتطور إلى الإدانة الصريحة دون أن يحدد طرفا بعينه ولكنها شملت كل الأطراف، ثم عبَّر البيان المشترك الصادر عن السفراء والقائمين بأعمال دول فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة عن القلق العميق من أي تصعيد مطالبًا بضبط النفس، وأكد دعمه لجهود المبعوث الأممي غسان سلامة، مع الانتباه  أن بيانات البعثة ذكرت حكومة الوفاق ولم تذكر المجلس الرئاسي، بينما لم يرد ذكر المجلس الرئاسي والاتفاق السياسي في بيان السفراء بالمطلق وذلك له معانيه الكثيرة خاصة بعد امضاء وقف اطلاق النار مساء أول الثلاثاء برعاية البعثة الأممية، ووفقا لكل تلك  السياقات والمعطيات سالفة الذكر أعلاه فإن السيناريوات المنتظرة هي:

1- مواصلة حكومة السراج في اتخاذ قرارات جريئة بإعادة تشكيل الكتائب المسلحة وقياداتها، والتي لا تأتمر بأمر الجهة التي تتبعها، أو حتى سحب الشرعية منها ومحاسبة تلك القيادات المتهمة بأنها ارتكبت جرائم وانتهاكات متعددة، ورغم أن ذلك يخفف من الاحتقان عسكريا إلا أنه لا يُنهي الانقسام ولا يحقق الهدف السياسي…

2- سيطرة الكتائب المهاجمة على العاصمة، والانقلاب على الاتفاق السياسي والإعلان الدستوري وإصدارها إعلانا دستوريا جديدا، وهذا يعيد الأمور إلى النقطة صفر بل ويزيد الانقسام بين المناطق التي يسيطر عليها حفتر والمنطقة الغربية، إلا إذا جرى الاتفاق مع حفتر وبرضا كتائب مصراتة والزنتان، وهذا خيار وارد ولكنه ضعيف جدا …

3- سيطرة   المهاجمين من السيطرة على العاصمة والاعتراف بالاتفاق السياسي والإعلان الدستوري، وتطالب المجلسين (النواب والدولة) بسرعة إعادة تشكيل المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق والمناصب السيادية المذكورة في المادة (15). وهذا يتطلب توافقا لن يمرّ إلا برضا حفتر ومحيطه العائلي والاستشاري بسبب ولاء مجلس النواب له مع إمكانية تطورات الصراع الصمت بين حفتر وعقيلة صالح….

4- بقاء الحال على ما هو عليه، وسيكون ذلك استمرارا لحالة القلق إلى حين إعادة الهجوم على العاصمة من جديد، وهذا خيار ضعيف نسبيا…

 ++ الإطار الحقيقي للاحداث او ما يتوجب على الليبيين استيعابه وفعله  

ما يحدث الآن في طرابلس الغرب هو انعكاس عملي لأدوار مفصلية وأجندات لأطراف متحكمة ودافعة بهدف الوصول الى حالة سياسية خادمة لها حيث ترغب أطراف في حكومة انتقالية واسعة الصلاحيات مع تحجيم أو انهاء دور السراج ومجلسه حيث سبق لديبلوماسيين أجانب في بداية يوليو الماضي أن أكدوا لفاعلين سياسيين ليبيين أننا نبحث البديل وعندما نجده سنتخلى عن السراج ومجلسه أو نغيرهما أو نحصر أدوارهما بحثا عن انهاء الازمة المتفاقمة في ليبيا والتي أصبحت تؤرقنا، ولكن حالة الفوضى والعبث قد لا تتوقفان في العاصمة وفي كل ليبيا أيضا لأن ما يحدث في يلبيا منذ سنوات هو محاكاة تاريخية لمشهد ما قبل ديسمبر 1951 ذلك أن الخلاف السياسي بين الفاعلين الدوليين المُترتب على القراءات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية لليبيا المستقبل، هو خلاف بين محورين أو رؤيتين للاتجاه في أحد خيارين:

  • دعم للانتقال الديمقراطي في المنطقة المغاربية عبر دفع الفاعلين السياسيين الليبيين نحو الخيار التونسي المُتبع منذ 2014 وأخذ مسافة غير قابلة للعودة عن المسار المصري ودعم الخيار الديمقراطي في موريتانيا ودعم حكومة العثماني ودعم الدور الإقليمي للجزائر في مشاكل وملفات كل المنطقة ( المغرب العربي – دول الساحل والصحراء – كل القارة )
  • دفع وتغذية للخيار العسكري في ليبيا عبر الإصرار على محاولات جديدة لتكريس خياري”القذافي2″ و”سيسي ليبيا” وهما في الحقيقة وجهين لعملة واحدة مما يعني المرور العملي الى سيناريو الحرب الأهلية الكارثية بسبب اختلاف البيئتين المصرية والليبية عسكريا واجتماعيا، وعندئذ ستسقط التجربة التونسية أيضا في براثن الانقلابات الناعمة حتى وإن استحالت خيارات الانقلابات العسكرية أو الأمنية، ثم بعثرة أوراق التجارب السياسية في الجزائر والمغرب وموريتانيا في مراحل لاحقة …

إن ما يجري في ليبيا ليس أزمة صراع داخلي على السلطة فقط بل هو ازمة خيارات وصرعات وتوجهات في المنطقة بين قوى إقليمية ودولية ومحددات تتدخل فيها الشركات العابرة للقارات ولوبيات واجندات عالمية ذات أبعاد ثقافية ودينية مصطبغة بالسياسي ظاهريا، ومع ذلك فإن المتصارعين في الداخل الليبي مع تغير خارطة تشكيلاتهم يُمثلون معابر رئيسية لتكريس الخيارات وتعبيد الطريق لمآسي يتضرر منها الليبيون أولا والعرب ثانيا…

وبناء على ما سلف ذكره يتوجب على الليبيين اليوم قبل الغد أن يفرضوا على نخبهم السياسية الحالية السعي الدؤوب الى بناء دولة ديمقراطية وقبل ذلك بناء دستوري وقبل كل ذلك تقديس ثقافة العمل والإنتاج بعيدا عن ثقافة الاقصاء والاستئصال التي يروج لها بعض أشخاص وأطراف نخبوية عبر استجابة لثقافة وتمويل من أطراف بل أذرع إقليمية ساهمت عمليا في نشر منطق وثقافة العنف والقتل والتخريب ضد ليبيا وشعبها، وان المطلب العاجل هو التمكن العملي من إجراء مصالحة شاملة وعادلة تدفن آلام الماضي، وتمكن الليبيين من توقي الصعاب عبر بناء المؤسسات الدستورية وحتى يهنأ الليبيون وكل الليبيات  بوطنهم وثرواتهم بغض النظر عن أحزابهم وقبائلهم ومدنهم وانتماءاتهم الفكرية والمذهبية والسياسية…

 

المصدر: الرأي العام التونسية بتاريخ 06 سبتمبر 2018

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*-  كاتب ومحلل سياسي تونسي مختص في الشؤون الافريقية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق