دراساتشؤون إفريقيةشمال إفريقياليبيا
جذور ثقافة المقاومة الاستباقية في التاريخ الليبي المعاصر (الجزء الرابع والأخير)

أسامة عكنان*
تمكنت “الجمعية الخيرية السرية” من جعل الليبيين يدركون في ضوء مجريات الصراع الأوربي الأوروبي آنذاك، أن إيطاليا إذا أرادت أن تلعب دورا في السياسة الأوربية وهي بالفعل تسعى لأن تلعب مثل هذا الدور، فعليها أن تعمل على مقاسمة الدول الأوربية الكبرى حقها في شمال إفريقيا مهما كلف الأمر. وبما أن تونس والجزائر قد أصبحتا من نصيب فرنسا، وبما أن مصر أصبحت من نصيب بريطانيا، فلا بد من أن تحظى إيطاليا بليبيا المنطقة الوحيدة المتبقية من الشمال افريقي خارج نطاق السيطرة الاستعمارية الأوروبية.
أدرك الليبيون إذن وبتأثير من الرؤى السياسة العميقة للجمعية الخيرية السرية، أن سيرورة الصراع الفرنسي البريطاني على المستعمرات في شمال إفريقيا، فتح الباب واسعا أمام إيطاليا لتتيسر لها سبل غزو ليبيا والحصول عليها من الرجل المريض “الدولة العثمانية”. فبعد احتلال فرنسا للجزائر سنة 1830 ثم لتونس سنة 1881، احتلت بريطانيا مصر سنة 1882.
وأمام هذه التطورات المأساوية في الأقاليم العربية الإفريقية من الدولة العثمانية، أصبحت ولاية طرابلس وبرقة “ليبيا”، هي الفاصل الوحيد بين الوجود الاستعماري الفرنسي والبريطاني على الساحل الإفريقي الشمالي، ومن هنا جاء اهتمام بريطانيا بأن تُحَدِّد مستقبل هذه الولاية العثمانية، حتى لا تكون مجاورة لفرنسا في الشمال الإفريقي، فأخذت بريطانيا ترنو ببصرها إلى دولة أقل شأنا من فرنسا لتجاورها في ليبيا. فقررت أمام الطموحات الفرنسية فيها أن تجعل هذه الولاية التركية تقع بعد زوال الصفة العثمانية عنها تحت سيطرة دولة لا تصطدم مصالحها المادية مع المصالح البريطانية. فكانت إيطاليا هي هذه الدولة.
كما أن الليبيين انتبهوا في تلك الحقبة من الزمن إلى أن الإيطاليين يفكرون في إيجاد “المستعمرة المنفى” للتخلص من الفئات الإيطالية التي تُعَدُّ خطرا سياسيا مستمرا على دولة إيطاليا الموَحَّدَة. كما أنهم فهموا أن التوسع الاستعماري خيار لابد منه لإيطاليا لكي تواجه سلبيات البطالة العمالية والمجاعة السكانية التي تفرضها طبيعة النظام الرأسمالي الجائر، كما فعلت الدول الأوربية الصناعية الإمبريالية الكبرى قبل ذلك “فرنسا” و”بريطانيا”.
هذا ولم تغب عن النخب الليبية مخاطر نفوذ وتغلغل مصرف روما في الحياة الاقتصادية لبلدهم. فقد امتلك هذا المصرف شبكة واسعة من الفروع المصرفية في مناطق اقتصادية حيوية مُطِلَّة على البحر المتوسط، كمصر وجزيرة مالطة ثم طرابلس وبرقة فيما بعد. فإيطاليا اعتبرت منذ وقت مبكر أن طرابلس وبرقة ميدانٌ مناسب لاستثمار رؤوس الأموال، وسوقٌ لبيع البضائع والصناعات الإيطالية. فقد بدأت الأموال الإيطالية تتسرب إلى الولاية منذ سبعينيات القرن التاسع عشر. وفي فبراير عام 1873 تحقق لإيطاليا بفعل الاتفاق الموقع بينها وبين تركيا، أن تكون أكثر الدول الأوربية حظوة في مجال الاستثمار بالولاية. وبالنشاطات المصرفية لمصرف روما احتلت إيطاليا في طرابلس وبرقة المرتبة الثانية بعد بريطانيا في مجال الهيمنة الأجنبية على الأعمال التجارية والمصرفية. فبالإضافة إلى سيطرة المصرف على بعض الأعمال، فإنه تحكم في توريد العديد من السلع الإيطالية إلى الإقليم، كالنسيج والأخشاب والرخام والنبيذ والسكر والأرز والجبن والورق وغيرها من السلع التجارية الإيطالية، بحيث تحولت طرابلس وبرقة مع مطلع القرن العشرين إلى مستعمرة اقتصادية إيطالية. وكانت العلاقة التعاونية بين المصرف وبين حكومة روما دالةً في خطوط تناميها على قرب لحظة الغزو الإيطالي لليبيا. وهو ما أدركه الوطنيون الليبيون جيدا وحذروا منه.
كانت مساحات الأراضي الشاسعة التي اشتراها المصرف في طرابلس وبرقة، إيذانا بقرب الغزو الذي سيستحضر الآلاف من المستوطنين الإيطاليين الذين سيحتاجون إلى هذه الأراضي لتوطيد دعائم وجودهم في الولاية. ولكن عندما تأجل الغزو لأسباب إقليمية، فإن المصرف عانى من أزمة أُجبر على إثرها على إعلان إفلاسه وبيع موجوداته في المزاد العلني، وهو ما جعل الدول الاستعمارية الأوربية تتسابق كي تحصل على ما تستطيعه من غنائم هذا المصرف الرخيصة، إلا أن هذا الإفلاس الذي اعتبره غلاة القومية الإيطالية إهانة لكرامة ومجد الإيطاليين، عزز لديهم النزعة الاستعمارية التي أسفرت عن تسمية طرابلس وبرقة في كتاباتهم بـ “أرضنا الموعودة” في تشابه تام مع فكرة “أرض الميعاد” في الفكر الصهيوني الذي راج في تلك الفترة بحثا عن مدخل للحظوة بفلسطين.
لاحظ الليبيون بفعل نشاطات الجمعية الخيرية السرية وشبيهاتها من الجمعيات والمنظمات التي انتشرت في طول البلاد وعرضها في تلك الفترة أن الفاتيكان يُعد داعما أساسيا ولاعبا رئيسا في معادلة إعداد الساحات الإقليمية والدولية لتسهيل أمر احتلال إيطاليا لطرابلس وبرقة. فقد أسهم الفاتيكان بنشاط عملي مكثف في تهيئة الرأي العام الإيطالي روحيا لجعله يقتنع بأهمية الحملة الإيطالية على ليبيا، لما يتوقع منها من إعادة لأمجاد المسيحية الكاثوليكية في الشمال الإفريقي. وفي المقابل فقد حرص الفاتيكان على إعطاء صورة مؤلمة للتأخر وللفقر ولممارسة العبودية في طرابلس وبرقة، وهي الوسيلة التي ما فتئ الاستعمار الأوربي بكل مؤسساته التي يعد الفاتيكان أحدها وأهمها، يبرر بها حملاته المتلاحقة في هذا المكان من العالم أو في ذاك، وخاصة في الولايات العثمانية العربية المسلمة.
لهذه الأسباب مجتمعة تخلَّقَت حالة من الوعي المتميز لدي نخب الشعب الليبي بضرورة الاستعداد لمواجهة هذه المخاطر القادمة لا محالة، ما جعلهم يتحركون بكل ما في وسعهم لمحاولة منع هذا المشروع الاستعماري الجديد من أن يتحقق على أرض الواقع، بعد أن تمكنت الجمعية السرية الخيرية من أن تبث الوعي بذلك في صفوف قطاعات واسعة من أبناء الشعب الليبي، فكانت بحق أول منظمة عربية تنشأ في ذلك التاريخ المبكر على قواعد من الوعي بضرورة نشر ثقافة المقاومة الاستباقية.