تحاليلثقافةشؤون إفريقيةشمال إفريقياليبيا
كيف حولَّ الليبيون الصحافة إلى مصدر للثقافة مطلع القرن العشرين؟ (الجزء1)

أسامة عكنان*
إن الخيط الرفيع الذي يفصل بين الإعلام والثقافة يجعل الكثيرين يفقدون البوصلة فيخلطون بين ما كان ثقافة وبين ما كان إعلاما، وهو الأمر الذي جعل السينما مثلا ثقافة تختص بها عادة وزارات الثقافة، بينما المسلسل التلفزيوني إعلام تختص به المؤسسات التلفزيونية، على الرغم من كون المسلسل التلفزيوني فيلما سينمائيا بطريقة أخرى مطولة جدا، وعلى الرغم من كون الفيلم السينمائي هو أيضا مسلسل تلفزيوني بطريقة أخرى مختصرة جدا.
ما نهدف إليه من وراء هذه الفذلكة الضرورية أن نمهد لواقعة تداخل الثقافي بالإعلامي في التاريخ الثقافي في ليبيا. حيث شكَّل الإعلام في هذا البلد أول ملامح التحرك الثقافي فيه وذلك منذ العهد العثماني، عندما انتشرت الصحافة المحلية باعتبارها إعلاما، مجليَّة حركة ثقافية منذ عام 1866. فقد لعبت الصحافة في ليبيا منذ لك التاريخ دورا مهما في نشر ثقافة الوعي السياسي، وفي تعزيز ثقافة الهوية الوطنية في الفترة 1900 – 1911 .
وعلى الرغم من أن الدوريات التي كانت تصدر في ليبيا في تلك الفترة كانت تختص بنشر القرارات والإعلانات والإحصائيات الرسمية الخاصة بالسلطة العثمانية في ولاية برقة وطرابلس، وفي غيرها من ولايات الدولة إذا لزم الأمر نشرها في دورية ليبية، إلا أن هذا لم يمنع من أن يستفيد الليبيون من هذه الظاهرة الإعلامية، ويقفزوا بها من ظاهرة نشأت مقتصرة على السرد الرسمي لمتعلقات السلطة، إلى ظاهرة تستخدم آليات الصحافة – الإعلام – لتمرير الثقافة وخلق حالة الوعي التي كانت نخب ليبيا آنذاك تحرص على بثها في صفوف الشعب الليبي استعدادا لما هو آت.
وفي هذا السياق كانت صحيفة “طرابلس الغرب” هي أول الصحف الليبية ظهورا في تلك الحقبة من الزمن، ولقد كانت تصدر باللغة العربية، حيث صدر أول أعدادها في عام 1866. ومع أنها كانت صحيفة رسمية تابعة للسلطة العثمانية في ليبيا واستمرت على هذا الحال مدة 44 عاما، أي حتى بداية الاحتلال الإيطالي، إلا أن النخب الليبية في مختلف المجالات وجدت فيها منبرا تطل من خلاله على الشعب الليبي. فقد أشرفت على تحريرها عدة شخصيات من مثقفين وأدباء ومؤرخين معروفين في ذلك الوقت.
هذا ولقد أدى صدور قانون المطبوعات عام 1907، وذلك بعد عودة دستور عام 1877 ليتم العمل به من جديد بفضل جهود حزب الاتحاد والترقي، إلى تشجيع حركة النشر والطباعة، وهو الأمر الذي أدى إلى ازدهار الحركة الصحفية الليبية عبر عودة بعض الصحف التي كانت قد غابت عن الساحة لسبب أو لآخر. ولقد وصل عدد الصحف والدوريات التي ظهرت في السنوات الأخيرة من العهد العثماني إلى ما يربو على 14 صحيفة ودورية.
وبالنظر لما كان للصحافة في تلك الفترة من أهمية بالغة لنشر الوعي وثقافة المقاومة الاستباقية لدى اللبيين، فإن النخب الليبية التي كانت تشرف على تلك الدوريات أو تكتب فيها أو تحررها، جعلت من الإعلام حاضنة للثقافة، وهو ما نوهنا في بداية مقالنا هذا إلى أنه في الحالة الليبية تميز بتفرد وخصوصية، بسبب أن نخب ليبيا الوطنية في تلك الحقبة التاريخية، وإدراكا منها لخطورة ما كان يحاك ضد ليبيا، جعلت كلَّ همها ينصب نحو ما يمكن أن نسميه بـ “ثقفنة الإعلام” عبر “ثقفنة الصحافة”، باعتبار أن الصحيفة كانت هي الأداة الإعلامية الوحيدة المتاحة آنذاك، أي أن تلك النخب الوطنية الليبية قامت بتحويل الإعلام إلى أداة ثقافية غير محايدة تمثل الفعل الوطني المناهض للسلطة، بعد أن نشأ مجرد أداة إخبارية محايدة تمثل السلطة.
إلا أن الأمر اختلف تماما بعد الاحتلال الإيطالي، إذ أن البلاد شهدت خلال فترة الاحتلال ركودا ثقافيا وفكريا بسبب سياسة إيطاليا الرامية إلى إعادة إنتاج الوعي الليبي بما يتناسب مع اعتبار ليبيا مستعمرة إيطالية تقوم فكرة استعمارها على مبدأ استعادة أمجاد الحضارة الرومانية عبر انتزاع هذه الأرض مما تم اعتباره احتلالا واستعمارا عثمانيين.
ولقد اقتصر الإعلام واقتصرت الثقافة آنذاك على ما أتاحه وسمح به الاستعمار من دوريات صحفية لاتينية ومعمار روماني ومدارس إيطالية وخدمات تعليمية وصحية مجانية تروج لثقافة المستعمر باعتبارها الأصل المستعاد بعد غياب. في حين توقفت جميع الدوريات العربية عن الصدور في فترة الاحتلال، وذلك بعد صدور قرار ملكي لتنظيم الدوريات والمطبوعات الصحفية يأمر بوقف صدور الدوريات المحلية الليبية.
أما بعد قيام الحكومة الطرابلسية التي كانت تتبع لإدارة الحكومة الإيطالية، فقد عادت حركة الطباعة والنشر بشكل محدود إلى إقليم طرابلس وبرقة, فقد تم انتزاع بعض الحقوق المدنية وبالأخص ما يتعلق منها بحرية الصحافة بفضل جهود حزب “الإصلاح الوطني”. إلا أن ذلك لم يرق للسلطات الاستعمارية التي كانت ترى في أي عودة لأي صحيفة تصدر باللغة العربية، شكلا من أشكال المقاومة لمشروعها الاستعماري في ليبيا. فما كان من تلك السلطات إلا أن شنت حربا شعواء على بعض الصحف التي تم تصنيفها باعتبارها خارجة عن القانون ومعادية لإيطاليا بسبب ما كانت تلك الصحف تبثه من وعي وطني في صفوف المواطنين الليبيين، ومن تحريض ضد الاستعمار الإيطالي.
ومن مظاهر ذلك مثلا أنه بعد أن تم تأسيس “النادي الثقافي” ببنغازي بوصفه ملتقى يجمع المفكرين والنخبويين الليبيين، وبعد أن أصدر صحيفة “الوطن” عام 1920، فإن السلطات الإيطالية لجأت إلى إيقاف تلك الصحيفة وإلى مضايقة النادي، بسبب أنهما – الصحيفة والنادي الذي أصدرها – كانا يؤيدان استقلال برقة عن إيطاليا.
يــتــبـع…
المصدر: رؤية ليبية ، العدد 18 بتاريخ 22 اكتوبر 2018