تحاليلسياسيةشأن دوليغرب إفريقيا
هل تَنامى النفوذ الروسي في غرب افريقيا بالتوازي مع تراجع الحضور الفرنسي؟

علي عبداللطيف اللافي-كاتب ومحلل سياسي مختص في الشؤون الافريقية
بداية الأسبوع الماضي أكدوزير الخارجية المالي “عبد الله ديوب” وعبر التلفزيون الرسمي أن انتهاء اتفاق عام 2014 مع الفرنسيين يدخل حيز التنفيذ في غضون ستة أشهر ولكن الاتفاقين الآخرين أُنهيا بأثر فوري وهو أمر اعتبر أن القانون الدولي يخوّله، ومعلوم أن التحالف بين فرنسا ومالي قد تحول إلى علاقة عدائية نشأت بعد انقلاب أوت/أغسطس 2020 في “باماكو”، وبعد سلسلة من المؤشرات بين الطرفين وضع العسكريون في مالي حداً للاتفاقات الأمنية سالفة الذكر، ولكن تراجع الحضور الفرنسي عموما في غرب القارة السمراء صوحب بصعود هادئ وناعم للنفوذ الروسي في نفس المنطقة إضافة الى تواجد معتبر في شمال افريقيا أيضا وخاصة في السودان وليبيا مضاف اليه قوة العلاقات التاريخية مع الجزائر ومحاولة من الكرملين على تنزيل استراتيجية لاحتواء كثير من النخب التونسية والمغربية والموريتانية، فكيف تنامى ذلك النفوذ الروسي وخاصة في مالي، وما العلاقة الجدلية بين ذلك التنامي والتراجع الفرنسي والذي عادة ما يوسم بانه إعادة تموقع لا غير؟
1- أولا، كان تصريح وزير الخارجية المالي واضحا وخاصة عندما قال بصريح العبارة: “اعتباراً من 2 مايو/أيار الحالي، انتهى أثر الاتفاق المتعلق ببرخان والاتفاق المتعلق بتاكوبا بالنسبة لمالي”، وذلك يعني أنه منذ تلك اللحظة لا يوجد أساس قانوني لنشاط فرنسا في الأراضي المالية، ولكن ما أكده كل المتابعون هو أن انسحاب القوات الفرنسية ستكون له تداعيات على عمل بعثة الأمم المتحدة المكلفة تحقيق الاستقرار في مالي “مينوسما”، ويسمح تفويض مجلس الأمن الدولي لقوة “برخان” بتقديم الدعم لـ”مينوسما”، إذا طلبت الأخيرة ذلك وخاصة “في حال وجود تهديد خطير ووشيك”.
وقد قال المتحدث باسم البعثة “أوليفييهسالغادو”، “نُقدر هذا الدعم، وهو جانب مهم في الجهود الهادفة إلى تعزيز أمن قوات القبعات الزرق (التابعة للأمم المتحدة)، وتسهيل إجراء عملياتنا لدعم السكان والمؤسسات المالية”، وقد أضاف مؤكدا “إذا تطور الوضع بشأن هذه النقطة، فمن الواضح أن ذلك ستكون له تداعيات يتعين على مستوى البعثة أن نأخذها في الاعتبار في خطط التكيّف…”
2- ثانيا، الموظف الاممي شدّد أيضا على أن “مينوسما تواصل أنشطتها وتنفيذ تفويضها دعماً للماليين، وفي الوقت ذاته تتكيّف مع تطور الوضع على الأرض”، من جهتها اعتبرت وزارة الخارجية الفرنسية، في نفس اليوم التي ادلى بها وزير الخارجية المالي بتصريحاته الغير مسبوقة بخصوص العلاقة بين البلدين، أن قرار المجلس العسكري المالي “غير مبرر”، مؤكدة أنها ستواصل انسحابها العسكري الجاري منذ أشهر والذي ينتظر أن ينتهي بحلول أوت/أغسطس المقبل، أما الاتحاد الأوروبي فاعتبر قرار مالي “مؤسفاً” لأن ذلك لا يعزّز خلق مناخ سلمي ولا التعاون ضد الإرهاب، حسبما أعلن المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي، “بيتر ستانو”الأسبوع الماضي، وقال “ستانو”أيضا خلال نفس المؤتمر الصحفي: “لقد أخذنا علماً بهذا القرار الأحادي، إنه أمر مؤسف”، وكان المتحدث باسم الحكومة المالية الكولونيل “عبدالله مايغا” قد أتهم فرنسا بارتكاب “انتهاكات صارخة للسيادة الوطنية لمالي”، مستشهداً بقرار باريس إنهاء العمليات المشتركة مع القوات المالية في جوان/يونيو 2021، والذي قال إنه اتخذ من جانب واحد، وأضاف أن قرار فرنسا بسحب قواتها من البلاد في فيفري الماضي اتُخذ “مرة أخرى من دون تشاور مع الشركاء الماليين”، ويأتي قرار العسكر الماليين بعد أربعة أشهر على طرد السفير الفرنسي في باماكو “جويل ميير” في يناير/كانون الثاني الماضي، بعد اتهامه بـ”التدخل” في شؤون البلاد، كما أمر العسكر في الشهر نفسه القوات الدنماركية بالخروج من البلاد نتيجة التداعيات مع فرنسا، واتهم الجيش المالي الفرنسيين بعجزهم عن وضع حدّ للمسلحين في شمال البلاد.
3- ثالثا، الثابت أيضا أنه إضافة إلى الخلافات مع باريس، فإن “باماكو” اصطدمت أيضا مع المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا “إيكواس”، مطلع العام الحالي، بعد قرارها تأجيل الانتخابات التي كانت مقررة في فبفري الماضي، فضلاً عن وضع إطار زمني مدته خمس سنوات قبل تسليم السلطة للمدنيين، ومعلوم أن قادة “إيكواس” قد قرروا إغلاق حدود بلدانهم مع دولة مالي وتجميد أرصدتها لدى المصارف ومنع التحويلات المصرفية، وسحب كافة الدبلوماسيين من “باماكو”، وإلغاء كافة أشكال التعاون معها، كذلك المساعدات المالية باستثناء الأدوية والمواد الغذائية، وفي المقابل تمسك العسكر بقرارهم رافضين التراجع أمام “إيكواس” على وقع تقديرات غربية بوجود دعمٍ روسي عبر نشر مرتزقة “فاغنر”في مالي واعتبر الانقلابيون أن “الروس الموجودين في البلاد هم مدربون عسكريون..”
4- رابعا، الرسميون الروس من جهتهم سارعوا الى تقديم قراءات خاصة بهم وهو أمر ليس بجديد على موسكو في كل الملفات الجدلية، فقد قال وزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف” بخصوص ذلك في مقابلة له مع شبكة “ميدياسيت” الإيطالية منذ عشرة أيام إن “مجموعة فاغنر موجودة في مالي وليبيا على أساس تجاري”، وقد شدّد على موقف موسكو الرسمي بأن “لا علاقة لفاغنر بالدولة الروسية”، وأضاف “لافروف” أن موسكو “أوضحت ذلك لزملائنا الفرنسيين عندما أصبحوا قلقين بعدما اتفقت فاغنر مع حكومة مالي على تقديم خدمات أمنية”، وتابع “لافروف” في المقابلة: أخبرني زميلي العزيز “جان-إيف لودريان” وكذلك (مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي) “جوزيببوريل” في سبتمبر/أيلول 2021 بصراحة بأن روسيا ليس لديها ما تفعله في أفريقيا، لا عبر القنوات الحكومية ولا من خلال الشركات العسكرية الخاصة، لأن أفريقيا منطقة ذات أهمية للاتحاد الأوروبي ولفرنسا”
5- خامسا،وبمعزل عن حديث “لافروف” الأخير، فإن الفرنسيين يستشعرون تراجعاً مقلقاً لنفوذهم في مالي، وفي منطقة الساحل الأفريقي (تضمّ بالإضافة إلى مالي، كلا من بوركينا فاسو وتشاد وموريتانيا والنيجر)، القلق الفرنسي طبعا متماه مع مخاوف أمريكية من الحضور الروسي في شمال وغرب القارة وخاصة وأن الروس يدعمون فعليا أحد المعارضين التشاديين انطلاقا من أراضي افريقيا الوسطى، وهم موجودون في السودان وليبيا مضاف اليه ارث علاقات موسكو مع الجزائر ومصر ونية تنمية علاقاتها بأشكال مختلفة ومتفاوتة مع تونس وموريتانيا والمغرب، ومعلوم أن للأمريكيين ثلاث خطوط حمراء في القارة السمراء وهي: “ضرورة انسباب النفط – التصدي للتنظيمات الإرهابية- عدم السماح للروس بالتمدد وخاصة على مستوى عسكري، كما أن “واشنطن” ساعية الى تحويل كل ملفات شمال وغرب القارة الى ملفات مستقرة ونائمة للتفرغ للروس والصينيين والإيرانيين….
6- سادسا، لا خلاف في أن الفشل العسكري في حسم الصراعات مع المجموعات المسلّحة من أهم مسببات تراجع النفوذ الفرنسي، وقد تُرجم التراجع بانقلاب مالي في ماي 2021 والذي جاء بعد شهر واحد من مقتل حليفهم المهم “ادريس ديبي” في التشاد، ثم انقلاب بوركينا فاسو في مطلع العام الحالي، إضافة الى انقلاب “غينيا كوناكري في سبتمبر الماضي”، ومحاولة انقلابية في “غينيا بيساو” في جانفي/يناير الماضي، وكل هذه الانقلابات أربكت الفرنسيين ورسخت فكرة تراجع نفوذهم وهو التراجع الذي أعطى مساحات للروس بل وتم إفساح المجال لمزيد من التوغلات الروسية في شمال وغرب القارة بعد أن يقتصر وجوهم الفعلي في “زمبابوبي” و”جمهورية أفريقيا الوسطى”وبالتوازي وفي نفس المدة تمددت الجماعات المسلحة في أغلب دول غرب افريقيا …
7- سابعا، الفرنسيون سهلوا بطريقة او بأخرى لوجستيا للحضور الروسي فهم تحالفوا معهم موضوعيا منذ 2017 في ليبيا عندما تقاطعت مصالح العاصمتين في مربعات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر والذي اسند لوجستيا في معاركه في بنغازي وفي شرق ليبيا بينما هو سهل مهمة الروس في التواجد ميدانيا في ليبيا عبر لافتة “فاغنر” حتى أن “لافروف” قال أن “البرلمان في طبرق هو من استدعانا”، كما أن تحالفات عدة قد تمت موضوعيا بين “بوتين” و”ماكرون” قد تم في أكثر من ملف،وهي تحالفاتتكتيكية لم تدم طويلا بل وأصبحت في طي التاريخ،وقد أشار اليها”ماكرون” نفسه في تصريح “الايكومنست” المطول والشهير سنة 2018، والروس اليوم يوظفون تردد وضعف الأوروبيين والذين لم يستديروا للقارة السمراء الا أخيرا حيث كانوا ينظرون الى ملفاتها من الزاوية الأمنية فقط، وهو ما أعطى مساحات للروس والإيرانيين والصينيين أيضا…